تحيط بمنزلي خمسة مساجد، وأوزع صلواتي بينها. لا أكاد أصلي في مسجد واحد أكثر من صلاتين في اليوم. ومع استمراري في التنقل ما بين تلك المساجد، بدأت روحي تألف الصلاة في ثلاثة مساجد من الخمسة. حاولت أن أوجد الألفة مع المسجدين الآخرين، فما استطعت.
مع الوقت (وبناءً على تخصصي الإداري) بدأت في تحليل المشاكل المحيطة بالمنشأة. حيث اعتبرت أن هذه المساجد هي منشآت قائمة، لها قيمتها الاعتبارية، كما أن لها احتياجاتها، وعليها مسؤولياتها، ولها جمهورها المستفيد من خدماتها. هذا التحويل الذي وضعته، بدأ يعطيني المؤشرات الكفيلة بالوصول إلى الخلل، حيث بدأت ألاحظ في هذين المسجدين، غياب الإمام بشكل دائم، أو بمعنى أصح عدم معرفتي لشخصيته، وذلك لكثرة الأئمة المصلين بنا. كما بدأت ألاحظ غياب المؤذن لفترات طويلة، أضف لذلك النقص الحاد في المياه بدورات المياه الملحقة بالمسجد، ناهيك عن الأتربة والأغبرة المنتشرة في الزوايا والمداخل. ولذلك بدأت وبدون إرادة مني بالتعاطف مع المسجدين المهملين، وأصبحت أُكثر من الصلاة فيها، أملاً في مساعدتهما على النهوض من التعثر الذي تمران به.
ومع كثرة التفكير في وضع تلك المساجد، بدأت أتعمق بشكل أكبر للبحث عن أساس لهذه المشاكل. فوصلت للقناعة بأن المشكلة الرئيسة في نظام التشغيل الداخلي للخدمات المقدمة من المسجد للمستفيدين منها، تقوم وبشكل أساس على الموارد البشرية فيها. ولذلك فإنه لا يمكن لهذين المسجدين، وللمساجد التي على شاكلتهما، أن تقوم بأعمالها التي تم بناؤها لأجلها، في ظل غياب شبه مستمر للإمام، وعدم حرص من المؤذن، وعامل نظافة غير مستقر في غرفته ليعمل في المناطق المجاورة. لا يمكن متابعة أعمال الصيانة للكهرباء والسباكة في أرجاء المسجد ومتعلقاته، وجماعة المسجد لا تعرف من الإمام الفعلي لمسجدهم، هذا إذا كانت هناك جماعة دائمة لمثل هذه المساجد، حيث لاحظت أن الناس يهربون من المساجد المتعطلة والمتعثرة للمساجد القائمة بأعمالها بالشكل المطلوب.
وظيفة الإمام والمؤذن في نظري ليست مقدسة. وعندما يتهالك البناء المعنوي للمسجد، فإن المسؤول الأول عنها هو الإمام والمؤذن. ومع التوسع الحالي في المدن، ومع كثرة مشاغل الحياة على الناس، فإن هذه المسؤولية تكون عالية المستوى والأهمية. أقول هذا الأمر، لأن الحضور الفعلي للمسجد، وحرص الناس على الصلاة في دور عبادة متميزة، سيزيد من طمأنة الجانب الروحي للإنسان. وبالتالي فإن هذا التوازن الداخلي سوف يستمر ويتدفق، لينعكس بالشكل الجيد على باقي منتجاته العملية والاجتماعية والإنسانية في الحياة.
ذهبت لأبحث عن نظام الأئمة والمؤذنين على موقع وزارة الشؤون الإسلامية والدعوة والإرشاد. فوجدته في صفحة اللوائح والأنظمة، في آخر أيقونة من أيقونات الأنظمة للوزارة، وكانت هذه هي الملاحظة الأولى. وبدخولي إلى تفاصيله وجدت أنه قد صدر في محرم من العام 1392. ولم يحدث عليه أي تغيير أو تعديل.
وقد جاء نص الهدف الثالث من أهداف الوزارة كالتالي: (العناية ببيوت الله وتعميرها. ويكون ذلك باستخدام السياسات التالية:
إنشاء المساجد وصيانتها، والمحافظة على نظافتها لتصل إلى المستوى اللائق.
اختيار الأئمة والمؤذنين الأكفاء علمياً والمؤهلين لتوجيه الناس بالحكمة والموعظة الحسنة.
الاستمرار في العناية بالمراكز الإسلامية التي تشرف عليها الوزارة خارج المملكة.
وأعتقد أن الوزير النشط الدكتور عبداللطيف آل الشيخ غير راض عن أداء المساجد بشكل كامل. حيث أشار في أحد تصريحاته الأخيرة، إلى أن الوزارة بصدد تعيين وتوظيف 4000 إمام ومؤذن على وظائف رسمية، وهذا بالطبع خبر جيد ورائع.
وهنا أود أن أقترح عليه أن يطبق ما أسميها بالوظيفة الكاملة. حيث يتم تعديل النظام من أجل التعاقد مع الإخوة العرب والمسلمين المتخرجين من جامعات المملكة، وخصوصاً جامعات الإمام، وأم القرى، وطيبة، والجامعة الإسلامية بالمدينة، ومن الجامعات الإسلامية المنتشرة في الدول الإسلامية. ويقوم المتعاقد بالوظائف الثلاثة كاملة (إمام ومؤذن وعامل نظافة)، على أن يكون سكنه في المسجد ذاته هو مقره الدائم. وبالتأكيد فإن الراتب المقدم للمتعاقد معه سوف يكون أقل من مجموع المكافآت المعطاة للوظائف الحالية.
حتى تلك المساجد التي يتم بناؤها عن طريق المحسنين، فإنه يؤخذ في الحسبان تأمين مبالغ الرواتب على الأقل لخمس سنوات مقبلة من قيمة بناء المسجد الأساسية، إذ لا يعقل أن يتكفل المحسن ببناء مسجد ليتم هجرانه من الأيام الأولى لافتتاحه.
نأتي الآن للنقطة الأهم. لماذا نتعاقد مع أئمة خارجيين ولدينا نماذج متميزة من السعوديين في مساجدنا. وعليه أقول، أولاً: شكراً لأئمتنا المتميزين على اهتمامهم وحرصهم، ولكن من يرغب بالاستمرار في الإمامة والأذان، فإنه يستمر، بشرط ألا تتعدى المكافأة السنوية 10 آلاف ريال للاثنين، بعد التعاقد مع موظف دائم للمسجد ليغطي فترة غيابهما المحتمل.
بالمناسبة، في رمضان الماضي تم افتتاح جامعين كبيرين في حي عرقة بالرياض، من قبل شخصيات مرموقة. وحينها كنت أتحدث مع أحد الأصدقاء، لو أن المبالغ المليونية التي كلفها بناء الجامعين ومعها كم جامع آخر، لو تم تجميعها في جامع واحد. فما هي التحفة المعمارية التي سنخرج بها؟ ولكن على ما قيل تلك قصة أخرى.