(الدين) سماء ملئت حرساً شديداً وشهباً كمعنى مغلق يعطي طمأنينة لكل معتنقيه، (والعلم) مجرات ومدارات وأقمار وكواكب وسديم وكاوس...الخ كمعنى مفتوح يزيد البلبال في القلوب والدهشة في العقول.
العلم (نظافة) جسد من الميكروبات والجراثيم، والدين (طهارة) روح من درن المعاصي، فإذا اقتحمت معايير النظافة ميدان الطهارة عابت على المصلين التيمم بالتراب، وإذا دخلت معايير الطهارة ميدان النظافة عابت استخدام الكحول (النجس) في تنظيف الجروح.
حتى الشاطبي في كتابه الموافقات والذي يعتبر مرجعاً لكل دارس في المقاصد الشرعية، يكاد يفشل في معايير حقوق الإنسان الحديثة، فتطور العقل البشري والتجربة الإنسانية يحتاج في كل قرن (شاطبي جديد)، فما دعا الشاطبي إلى تأليف كتابه إلا ظنه الحسن في من (فارق وهد التقليد، راقياً إلى يفاع الاستبصار...)، ولكنه رغم هذا كان ابن بيئة القرن الثامن الهجري، وهذا ما جعله يرى من مكارم الأخلاق (منع قتل الحر بالعبد) راجع ص327 (التكاليف الشرعية ومقاصدها).
ولهذا فالشاطبي لو عاش في هذا الزمن لربما اقترح نفي عقوبة القتل بالكلية للإنسان، ولأدرك الفارق بين الدين والعلم، فالعلم لا علاقة له بالدين من قريب أو بعيد، ولو كانت له علاقة حقيقية كما يتصور بعض المسلمين، لكان العالم الإسلامي أبعد الناس عن دينهم، لأنهم أكثر الناس تخلفاً علمياً، ولا يقول بهذا أحد.
أحياناً ينظر للدين والعلم بنظرة مساوية للعقل، بينما العقل حاكم على العلم والدين، فالعقل هو المنتج للمعرفة الدينية، ولولا هذه المعرفة الدينية لما كانت هناك المذاهب والفرق في كل دين وملة، والسبب أن العقل يعيد إنتاج المعارف الدينية وفق ثقافته التي نشأ بها، (في بعض قرى الهند حيث تنتشر فكرة الحلولية، يكاد البعض لا يكلف الولد الحافظ للقرآن بأي عمل مرهق مما يفعله أقرانه لأن جوفه حوى القرآن، فهل هذا تقديس لحلول القرآن فيه؟!) بينما في بيئات أخرى لا يوجد عليها أثر الديانات الحلولية، يكون ابنها حافظاً للقرآن ولا يمنعها هذا من أن تجعله يطارد الأغنام في الفيافي والقفار كأي راعي غنم في مثل سنه دون تبجيل أو تعظيم لهذا الصبي.
إذاً فالدين في نطاقه العام هو منتج اجتماعي يظهر على شكل (عقيدة اجتماعية/إيديولوجيا)، ولكنه في النطاق الخاص ليس عقيدة بل (إيمان)، ولهذا فصاحب (الإيمان) يختلف عن صاحب (العقيدة)، فداعش (عقيدة) والقاعدة (عقيدة) بينما المسلم كفرد قد يعيش (الإيمان)، فالعقيدة تفاصيل تصنع أخلاق القبيلة التي تمنع السوء عن نسائها وتستبيح السبي لغيرهن، بينما الإيمان قناعة خاصة تصنع أخلاق الإنسان، فلا يوجد مؤمن يستسيغ القتل، ويوجد عشرات العقائديين يتلمظون بحثاً عن ملحمة تقطع فيها الرقاب وتسيل فيها الدماء للركب.
الإيمان براءة أصلية يستطيعها كل فرد دون إيديولوجيا، ولهذا تجد المسلم الطبيعي ينتمي للقوات المسلحة في وطنه (روسيا، أميركا، فرنسا... الخ) دفاعاً عن وطنه ضد المعتدي، بينما العقيدة تفاصيل إيديولوجية تقصي هذا وتقرب ذاك، فترى الفرنسي المسلم أو النيوزيلندي المسيحي يستبيح قتل مواطنيه المخالفين له في الدين، الإيمان توحيد بلا تنقيب في النوايا ولهذا استنكر النبي على من تجرأ بسيفه لمن قال: لا إله إلا الله (هل شققت عن قلبه؟)، أما الخوارج فعقيدة اعتنقها ابن ملجم ليستسهل سفك دم علي بن أبي طالب، من باب الإنكار عليه بمغالطة (كيف يقبل تحكيم الرجال ويترك تحكيم المصحف؟!) رغم قوله كرم الله وجهه: (وهل هو إلا كلام بين دفتي كتاب لا يستخرج ما فيه إلا الرجال)، وما أنهك الأمة الإسلامية طيلة تاريخها إلا أضراب هؤلاء الخوارج القدامى (نستحقر صلاتنا إلى صلاتهم) ولم نفق بعد من دجلهم العقائدي الذي يمزقون به أمة الإسلام إلى شيع وفصائل يستبيحوا بها دم هذا وسبي تيك.
أخيراً، العقل بمعنى (آلة النظر) يمكن أن يتحول إلى آلة أو جهاز إيديولوجي قاصر النظر على مذهبه، فلا يستطيع سوى أن يكون خادماً للإيديولوجيا الدينية التي اعتنقها، ولهذا يوجد من يقدس البقر ويحمل أعلى الشهادات العلمية، أما العقل بالمعنى (الديكارتي) ثم العقل بالمعنى (الكانطي) فمسائل لم يعرفها العقل الديني القروسطي، وإن عرفها العقل الديني الحديث فالسبب مسيرة طويلة جعلته يستوعب مثلاً أن (استعباد البشر تحت أي مبرر مسألة غير مقبولة)، لينتهي بيع البشر في أسواق النخاسة كسلع تورث وتشترى وتهدى كالدواب تقريباً.
على العقل الإسلامي أن يتخلص من خلط الأوراق ما بين لازم النظافة ولازم الطهارة، فلازم النظافة فيزيقي، ولازم الطهارة ميتافيزيقي، وكم المسافة شاهقة ما بين الطبيعة التي يشاركنا فيها ستة مليار إنسان (غير مسلم)، وما وراء الطبيعة الذي يرجوه بعضنا لأنفسهم دون بقية العالمين.