إذا رأيت شخصاً ما يقف إلى جوارك في عربته أمام إشارة المرور، ويحدثها بيديه فاعلم أنه من ضحايا سوق الأسهم وغسيل الأموال، وسيتكرر معك المشهد حين ترى آخر يقود المركبة وقد تدلت "براطمه" حتى تكاد تلامس قدميه دون أن يلتفت إلى شريكة عمره الرابضة جواره كطاووس الليل محاولة انتزاع ابتسامة غليظة من ذلك الكائن العصي، فاعلم أنه واحد من ضحايا ذلك الزمن الرمادي، وإذا رأيت أطفال معلم يذهبون بعد الحصة الثالثة إلى المرشد الطلابي، ليهبهم ما يسد جوعهم من مقصف المدرسة بعد أن قام المعلمون باقتطاع جزء يسير من رواتبهم للتلاميذ غير القادرين على تأمين فسحتهم، فاعلم أن ذلك المعلم أو المعلمة كانا فريسة سهلة لتلك الأيام السوداء، وقس على ذلك عشرات المشاهد التي تدمي القلب، وتهشم أقواس الفرح، وتبعث الهواجس الدفينة من المعاناة والقهر الاجتماعي وخيبات العمر، ولذلك فلم أستكثر ذلك البوح الصارخ والموجوع، الذي أطلقه الدكتور أحمد بن راشد بن سعيد من خلال مقاماته وقصائده، محاولاً فضح وتعرية تلك الممارسة الاقتصادية الخرافية واللا معقولة، والتي أودت به وبغيره إلى الكساد الكبير والهزات الارتدادية ومرارة الصدمة وفجرت عواطفه المشبوبة، لتتحول إلى مجموعة نثرية وشعرية من أدب الأزمات والنكبات وبالذات أدب المقامات، فقد أعاد ابن راشد حلاوتها وأظهر ما فيها من شدة الوقع والمرونة والحيوية وقوة الدلالة، والإيحاء بالمعنى المراد يقول سهم بن كنانة في حديثه عن رافع بن جني: هو شيخ الأسهم في عصره، والخبير الجهبذ في مصره، وقد طبقت سمعته الآفاق حتى تحدثت بحدسه الشام والعراق، أخذني ابن جني إلى مجلسه الخاص وفيه حاسوب محمول ومئات الأقراص وأجلسني ثمة وقال: أتريد سؤالي عن السوق؟ قلت نعم فدتك أسهمي كلها. قال مبتسماً: سيصلحها الله بعد زمن وسيباركها كما بارك الشام واليمن. قلت: سبحان الله وكيف علمت بالأمر؟ لا حرمك الله في الجنة من شرب.....! ضحك ابن جني قائلاً والتمر لا تنس التمر! ويقول في مقامة أخرى والخطاب لهلال بن عطاء: أي سوق هذا يا ابن كنانة، وهو لا يشبع نهماً ولا يقضي لبانه؟ قلت: ولكنك الآن أحسن حالاً، وأفضل مآلاً، قال: لقد أدمنت على السوق، كما أدمن الأعراب على لبن النوق، ويقول بن كنانة في باب الشعر: كفى بك هماً أن ترى أسهم الوغى تمزق غلماناً وتردي جواريا. وتحرق أكباداً وتخلي منازلاً وتجتث أشجاراً وتبلي سواقيا. وتخطف بعد العرس طيف ابتسامة وتخفض رأساً كان بالأمس عاليا . كفى بك عجزاً أن ترى وجه فارس كريم وقد أغضى على الضيم جاثيا. وشيخ مهيب في الفيافي مجندل تغشّاه هامور فأرداه باغيا.