بعد أن فرغ من الحديث عن الأمراض النفسية وأعراضها وتوفر علاجاتها، يعرج الدكتور عبدالله قدير في كتابه «الجنون والعظمة» الصادر عن دار مدارك للتأكيد على أن هذه الأمراض بعيدةٌ كل البعد عن المفهوم السائد لدى الكثيرين بتعلقها بالسحر والعين، أو الاعتقاد بأن العلاج يَتضمن الرقية الشرعية فقط دون تقبُلٍ للأسس العلميّة الحديثة، وعدم تقبل المختصين النفسيين أو رؤية الطب النفسي كخرافة ليست له قواعدٌ مبني عليها.

ويقول قدير: «نعلم أن للأمراض النفسيّة درجاتٍ من الشِدة، وكل عِلةٍ لها أعراضها، علاجها، مضاعفاتها واختلافها»، وهو يطالب بأن ننظر للمرضى النفسيين نظرةً شموليّةً بعيدة المدى، ونأخذ الجوانب الإنسانية بالاعتبار، فنحن جميعاً أناسٌ أتينا من بطنٍ واحدة، وتركيبٍ واحد، ونحمل المشاعر والعمليات الحيويّة ذاتها. البشر جميعهم يَتشابهون مع بعضهم البعض، اختلافنا الوحيد عن بعضنا هو تفكيرنا الباطن وأشكالنا الخارجية.

الجُنون واللاعَودة


الجُنون يُعرّف على أنه حالة عدم اتزان عقلي مستديمة يَمر بها الإنسان ولا يُمكن التعافي منها إطلاقاً، مما يَنتج عن الشخص المصاب تصرفات دائماً غير عقلانية لم يَعتد عليها المجتمع، وقد تضر بالمصاب نفسه أو بالآخرين.

هُناك مراحلٌ عِدة يَمر بها عقل الإنسان قبل أن يَتلف، وأولاها: مَرحلة ما قبل الإصابة، في هذه المرحلة الإنسان يُواجه صعوباتٍ عِدة بحياته، ويَتعرض لمواقفٍ تؤثر على نفسيته دون أن يَشعر.

ثانياً مَرحلة الإصابة، وفيها يَعتل الإنسان نفسياً نتيجة لتلك الضغوطات التي مَر بها وقابليةٌ جينية لتكوين المرض النفسي..

ثالثاً مَرحلة الأعراض، وفي هذه المرحلة تحديداً يَخلط الناس بين المرض ذاته والجُنون، فأعراض بعض الأمراض النفسية كانفصام الشخصية والاضطراب ثنائي القطب تُعتبر جُنونا فعليا، فكيف للإنسان أن يسمع أو يرى أشياءً ليست لها وجود؟ وكيف لشخصٍ ادعا أنهُ نبي الله؟ هنا يَحدث الالتباس، ويَجب العِلم بأن هذه الأعراض تختفي مع العلاج الصحيح للمريض، ويَستطيع المصاب العودة لحياته الطبيعية مع شرط الاستمرار على العلاجات لفترةٍ طويلة كي لا تنتكس حالته وتعود له الأعراض مرةً أخرى.

هُناك مرحلةٌ رابعة، وتبدأ هذه المرحلة عندما يَخلط الناس الجُنون بالأعراض، ويَتجاهلون المساعدة، وبطبيعة الحال المصاب لا يَستطيع تمييز حالته، ومُعالجة نفسه ليست من خياراته أبداً، حينها يبدأ الجسد دخول هذه المرحلة.. مَرحلة الجُنون واللاعَودة متمثلةً في مضاعفاتٍ لا يَستطيع الجسد الشفاء منها، كمريض السكري الذي لا يَتحكم بمعدل السكر بدمه ويَصل لمرحلة قد تُبتر قدمه بلا رجعة، أو كمريض الضغط الذي لا يَتحكم بضغطه مما يؤثر على عَضلة القلب مدى الحياة، والأمثلة كثيرة على المضاعفات التي لا يَستطيع الجسد التعافي منها.

المرحلة الثالثة يَجب فهمها جيداً، والخلط بين المريض والمَجنون يجب تصحيحه لدينا، فالأول عِلته قابلة للعلاج، والثاني قد وصل لمرحلةٍ لا يَستطيع الرجوع عنها أو تلافيها بسبب المضاعفات وعدم تلقي العلاج. الجُنون يُعتبر أحد المضاعفات طويلة المدى، ونَعتُ المريض النفسي بالجُنون خاطئٌ تماماً.

البَصيرة

عندما يَمرض الإنسان عضوياً، فهو مستبصرٌ بحالته، واعٍ بالأعراض، متيّقنٌ أنه قد أصيب. قبل الإصابة عضوياً يَشعر الإنسان أن بوادر المرض بدأت تهطل عليه، فيحتقن الحلق، ويتغيّر الصوت، وترتفع درجة الحرارة، ويَسيل الأنف، حين ذاك يَبحث المريض عن الطبيب لعلاجه من بعد الله سبحانه وتعالى.

العملية هذه قد تكون مختلفة قليلاً عندما نتحدث عن الاعتلالات النفسية، فالبعض عندما تعتل نفسه يَشعر بذلك، ويشكو علته لأحدهم ما إن يجد تَقُبلاً لمعاناته، والبعض الآخر عندما تعتل نفسه قد لا يَشكو ولا يَتحدث لأحد نتيجةً الخوف من التمييز، وبعض الاعتلالات النفسيّة كالانفصام وغيره ربما لا يُدرك الشخص بأنه مصابٌ به، ولا يَكون مستبصراً بحالته، على الرغم من المرض وتدهور حالته نتيجةً لتلك البَصيرة المشوشة، ويَظن أنه صحيحٌ معافى.

البصيرة مهمةٌ جداً لنا كبشر، فالبصيرة هي فِهم الأسباب، ومعرفة ما يؤثر بنا وبمحيطنا، كما أن البصيرة قد تُشير إلى مدى تأثير العلاج على المصابين، فإن عادت البصيرة لأشخاصٍ فقدوها، يعني ذلك أنهم أصبحوا مدركين لما أصابهم. يَجب رفع مستوى الإدراك عندما ترى أحد الأشخاص يتصرف على غير عادته، لا تدري.. ربما السؤال يَفتح عليه باب الحديث ويُفصح عما بداخله.

الجانب الخفي

الأطباء يُوقنون بأن الأمراض النفسية تتكون جرّاء قابلية جينية لدى الأشخاص وبعض العوامل البيئية، أما عامة المجتمع فهم مُنقسمون لثلاثة أقسام.

القسم الأول من يؤمنون بأن المرض النفسي هو نتيجة لمرضٍ فعلي، وتتم مساواته مع الأمراض العضوية الأخرى.

القسم الثاني هم من يؤمنون بأن الأمراض النفسية هي ضَربٌ من الجنون، السحر أو العين.

القسم الثالث هم أهل المريض من زوجٍ أو زوجة، إخوة أو أخوات، ابنٌ أو ابنة، هذا القسم قابع بالمنتصف، فهم يؤمنون بأن الأمراض النفسية فعلاً لها وجود لرؤيتهم وعيشهم مع المريض جنباً لجنب، وليس لها أدنى ارتباطٌ بالسحر أو العين، وفي الوقت نفسه لا يستطيعون نَشر هذه الحقيقة عمَّن يُحبونه لجزمهم بأن المجتمع لا يَتفهم حقيقة الأمر، فهم يعيشون في معاناةٍ حقيقة نتيجة كبت الحقيقة.

الوقاية خيرٌ من العلاج

في ظل النجاح الرائع الذي توصلنا إليه من علاجاتٍ متطوّرة لبعض الأمراض، اكتشفنا أن مُصطلح (علاج) ليس دقيقاً تماماً، فبعض الأمراض بالفعل يُعَالَج ويُشَفى منها الإنسان كالالتهابات الصدرية البكتيرية، وبعضها لا يُعَالَج منها الإنسان، بل تبقى حالته مستقرة إن التزم بإرشادات الطبيب العلاجيّة كالسكري، فالعلاج يُفترض أن يُفهم على نحوين.. الأول أنه يُعَالِج بالفعل، والآخر أنه يُقر الإنسان على حالته الطبيعية.

«الوقاية خيرٌ من العلاج» من أعظم الجمل، وأكثرها دقة، وأحكمها قولاً.

يَفهم كثيرون أن الصحة النفسيّة محدودةٌ فقط على من أصابهم مرضٌ واضطرابٌ ما، وهذا الأمر ليس صحيحاً، فالوقاية تشمل صحة الإنسان النفسيّة، ولا يَقي أحدٌ نفسه إلا وإن كان سليماً من العلة، ويُريد دفع البلاء عن نفسه، فالصحة النفسيّة واجبةٌ على الجميع، ولا عَيب في أن يَقي ويَهتم الإنسان المعافى بصحته النفسيّة كما يَفعل مع صحته الجسديّة.

إذن، من الذين يَجب وقايتهم من الاضطرابات النفسيّة؟ وما هو أفضل وقت يَقي فيه الإنسان نفسه من الاعتلال؟ بحسب الدراسات العلميّة، يُرجّح الجميع أن معظم الاضطرابات النفسيّة تنشأ من عدة عوامل، وأهمها العامل البيئي الذي يَعيش فيه الأطفال والمقدمون على المراهقة، والمراهقون الشباب والشابات بالعشرينيات ومنتصف العشرينيات، ففي هذه الفترة قد يَتعرض الطفل، أو المراهق، أو الشاب للعديد من الضغوطات الحياتيّة المختلفة من إهمالٍ أو عنفٍ أسري، وتقلبات نفسيّة ومزاجية قبل وبعد البلوغ، وصعوبات معيشيّة للشباب والشابات، ما يُؤدي إلى تراكماتٍ لا تظهر إلا لاحقاً على شكل مرضٍ نفسيٍ مزمن غير قابل للعلاج تماماً، إنما استقرارٌ للحالة عن طريق الوصفات الطبيّة العلاجيّة.

مرحلة الطفولة خاصةً تحتاج رعايةً خاصة، ليس في إبعاد العُنف الأسري والإهمال عن الطفل فقط، بل الاهتمام بمحيطه ومعرفة احتياجاته وما يُفكر به، وأتحدث هنا عن التحرش الجنسي الذي قد يتعرّض إليه بعض الأطفال، مما قد يُسبب ثُقباً عميقة بأنفسهم يؤثر على طفولتهم ومستقبلهم، فالوقاية والانتباه لهم من البعيد وحتى من أقرب الأقربين لازمة.

بذلت الحكومات العالمية مجهوداً فذاً في دراسة مقومات الأمراض النفسية، وتوصل الباحثون إلى العديد من الدلالات المهمة التي من خلالها نستطيع القضاء على هذه الاعتلالات النفسية، وإنهاء المعاناة بالوقاية، ولكن رغم كل ذلك، الوقاية من الأمراض النفسيّة لا تشغل إلا حيّزاً بسيطاً لدى الناس، وعدم اكتراثهم الفعلي بصحتهم النفسية كما يَكترثون بصحتهم الجسدية من وقايةٍ لأمراض القلب، والسرطانات وغيرها.

الفائدة في غير المُتوقّع

ألعاب الفيديو، أول ما يَخطر ببال البعض عند سَماع هذه الجملة هو الأطفال، أو المشاكل والأضرار الناتجة عنها، أو الخطر والتهديد المجتمعي المحتمل منها، ولم يُفكروا بالإيجابيّة من خلالها. أولى فوائد ألعاب الفيديو دعمها للاقتصاد.

معظم الناس يظنون بأن الدخل الناتج من صناعة الألعاب محدودٌ بالملايين فقط، ولكن الحقيقة بأن الدخل السنوي في هذه الصناعة حالياً يُقدر بالمليارات، ويَتخطى بعض الصناعات الضخمة، وكل هذا عائدٌ للدولة برفع اقتصادها، وزيادة الفرص الوظيفيّة للمواطنين.

قد لا تهتم بقوة صناعة ألعاب الفيديو، ولا تُذهِلك الأرباح الخيالية التي تُحققها الشركات، ولكن إن قلت لك بأن لألعاب الفيديو فوائدَ تعليمية وعلاجيّة نستطيع الاستفادة منها؟ معظم محاكيات الطائرات ومحاكيات العمليات الجراحيّة التي ترونها نتجت من ضِلع ألعاب الفيديو، ولم ولن يَكن لها وجود لولا وجود ألعاب الفيديو بالجوار.

أما بالنسبة للفوائد العلاجية، فلها فوائدٌ عِدة، وسأذكر بما هو متصلٌ بموضوع ونص الكتاب المتعلق بالمشكلات النفسيّة. إحدى الدراسات في عام 2012 استخدمت ألعاب الفيديو كوسيلةٍ علاجيّة مُكمّلة للعلاج التقليدي لبعض الأمراض النفسيّة، حَيث طور الباحثون لعبةً إلكترونية هدفها حل بعض المعضلات داخل اللعبة لتحسين أداء المريض حسب مرضه.

اللعبة اشتملت على مستوياتٍ عِدة، وكل مستوى صُمم على شكل جزيرة، وبداخل هذه الجُزر يُمكن للمريض التحكم بالشخصية الافتراضية التي تمثله داخل اللعبة.

اللعبة صُممت بطريقةٍ متوازنة تخدم المصابين ببعض الاضطرابات النفسية، فهناك جزيرةٌ يَجب على شخصية المريض التسلق للوصول لهدفٍ معين، وهناك جزيرةٌ يَجب عليه الغوص وتجميع بعض الأدوات، والهدف من التسلق والتجميع ليس المتعة فقط، بل القدرة المفقودة عند بعض المرضى النفسيين على التحكم بالضغوطات، والسيطرة على بعض الجوانب التي لا يَستطيعون التحكم بها في حياتهم الواقعية، ومن خلال تحكمهم بها في عالمٍ افتراضي يُفترض بأن ذلك قد يُحسّن من أداء المريض الإجمالي بالواقع، وذلك بجانب استخدام العلاج التقليدي.

مع ذلك فالاستخدام الخاطئ لألعاب الفيديو قد يؤثر سلباً على الإنسان، فالطفل الذي يَلعب ألعاباً خارج نطاقه العمري، والأشخاص الذين يقضون أوقاتا طويلة باللعب قد يؤثر على أدائهم الدراسي وحياتهم الاجتماعية، هذه أمثلة على الجانب السلبي لألعاب الفيديو، ولكن التركيز على السلبيّة فقط هو ما يَعرفهُ الجميع، لم يَتحدث أحد عن فائدة بعض ألعاب الفيديو المخصصة مع بعض الأمراض النفسيّة لدى الأطفال، لم يتم ذِكر أن مُحاكيات العمليات الجراحية وغيرها هي بالأصل ألعاب فيديو، لم يَذكُر الإعلام سوى السلبيّة فقط.

عَالم ألعاب الفيديو فنٌ مُميّز يَجمع بين عِدة أمور كالترفيه، والتعليم، والعلاج تحت مَظلةٍ واحدة، وقد نتوصل لما هو أعلى من ذلك حَيث يَكون للألعاب الإلكترونية دورٌ علاجيٌ كامل، وليس فقط مُكملا للعلاج التقليدي. يوماً عن يوم نتطوّر نحو مستقبلٍ لا نعرف كيف سيكون، أو إلى أين سيأخذنا، صحيح أن ألعاب الفيديو بها ضرر كأي سلوكٍ وفعل يزداد عن حدّه، وسواءً اختلفنا أو اتفقنا حول نص هذا الفصل، ليس الهدف تحبيب البعض بألعاب الفيديو، أو تغيير الفكر تجاهها، بل الهدف منه توسيع المدارك التي توصّلنا إليها.

الاسْتغلال والبَراءة

عندما يَكون الإنسان بلا أملٍ ولا مَعرفة ولا مأوى فكري، يُصبح عُرضَةً للاستغلال من الجميع، ويُنفذ ما يؤمر به دون اعتراض، حتى إن تأثر جسدياً، مادياً أو نفسياً نتيجة الاستغلال.

أمثلة الاستغلال كثيرةٌ جداً، منها استغلال بعض الأطباء للمرضى في سحب المبالغ غير المُبَرِرة كصرف أدويةٍ مُرتفعة الثمن بدلاً من تركيبة الدواء نفسها لشركةٍ مختلفة وبقيمةٍ منخفضة، أو استغلال النفوذ الوظيفي في أمورٍ غير قانونية كتوظيف ذوي القرابة وغيرها من الأمثلة التي لا تُعد ولا تحصى.

نحن ننزعج من الاستغلال في كل أحواله، سواءً كان في أمرٍ مادي أو وظيفي وغيره، ولكن ماذا عن الاستغلال الديني؟ الاستغلال الديني في زمننا هذا مؤسفٌ للغاية، فالكل يَتكلم باسم الدين، والكل يَفتي باسم الدين.

أصبح كثيرٌ ممن يُعانون من علةٍ ما تحت إمرة مُستغلٍ للدين، يُخبره ويُشخّص له بلا علم، ويبدأ معه جلساتٍ علاجيّة لم يأتِ بها أحدٌ من سلطان، ويتقاضى أجراً على فعلٍ هو يَعلم بأن ليس له مفعولٌ فعلي، وتستمر معاناة المريض بالخطوات «العلاجيّة» المزعومة من قبل هذا المستغل، ويَستمر الدفع وتعبئة الجيب.

هذا ليس افتراءً، بل واقعاً يعيشه البعض دون أن نشعر. الأمراض تَحتاج من دَرس وتعلم، وكرّس وقته وجهده لعلاجها ومداواتها، وكل شخصٍ يَختص بحرفةٍ معينة.. المهندس للهندسة، الرسام للرسم، والطبيب للطِبابة، فلا يُمكن لأحدٍ أخذ مكان الآخر.

الأمراض النفسيّة تُربةٌ خصبةٌ للاستغلال، فمن السهل جداً ربطها بأمورٍ تتعلق بالدين، ومن ثم الاستفادة منها، وجني المال السهل من وراء ظهور الناس دون أن يَشعرون.

المستغلون للأمراض النفسيّة عادةً ما يأتون للمرضى من أربعة أبوابٍ رئيسيّة، أولها الجن، ثانيها السحر، ثالثها العين ورابعها الحسد، وسأذكر خطوات المستغلين قبل دخول هذه الأبواب.

في بادئ الأمر يَبدأ الشخص الذي سيُستَغل بالتصرف أو التفكير على غير عادته مما يُثير الريب والشك دون معرفة السبب، وعدم وضع احتمالية المرض النفسي بالحسبان. الآن الشخص أو أهله يبدأون بالتحري والتقصي عن كيفية العلاج، ولأن معظم الناس ليس لديهم وعي تجاه الأمراض النفسية، فإنهم يَتواصلون مع أحد القُرّاء. يأتي هذا الشخص، ويبدأ بتلاوة القرآن الكريم، ويَبدأ بطرح التشخيص المحتمل حَسب الحالة، إن كان يَتصرف بغرابة ويُعاني من هلاوس فيُشخّص بأن لديه مَساً، وإن كان يُعاني من اكتئاب فيُشخّص بأنه مسحور، وإن كان يُعاني من قلقٍ شديد فيُشخّص بأنه مَحسود.. وتبدأ جلسات الاستنزاف التي لن تُفيد، إلى أن يَصل المريض الى مضاعفاتٍ ميؤوسٌ منها.

نحن كمسلمين نؤمن بوجود الجن، والسحر، والعين، والحسد.. فهذه مسلماتٌ لا شك فيها، ولكن استغلال البعض لها يَجعل من المريض مؤمناً أشد الإيمان بأن علته مرتبطةٌ بأحدها، ويُوكّل هؤلاء الذين يَسرقونه في وضح النهار وبمعرفةٍ تامةٍ منه، لأنه لا يَستطيع أن يَعترض على أمرٍ ديني يُؤمن به.

الله سبحانه وتعالى أمرنا بتحصين أنفسنا، وأمرنا بتلاوة القرآن ورَقي أنفسنا بأنفسنا، بل إن للقرآن الكريم له فوائدَ نفسيّة وعُضوية، حيثُ وُجد في إحدى الدراسات أن الإيمان والمُعتقدات الدينيّة لدى الشخص قد يَجعلهُ أكثر قُدرةً على التعافي من غيره، نحن لا نَدحر القُدرة الربّانيّة في كلام الله جلّ في عُلاه، نحن نُريد إيصال فكرة مُجتمعيّة مُهمة في اتخاذ الأسباب أياً كان، سواء كان مرضاً عضويّاً أو نفسيّاً، جميعها تحتاج الاختصاص، وجميعها تحتاج الأسباب والعلاج، لا يُمكن أن تطلب من الله النجاح وأنت لا تعمل لأجله، ولا يُمكن أن تطلب من الله الشفاء وأنت لا تتخذ الأسباب العلاجيّة الفعّالة، هذا ليس تكذيباً للحقيقة، بل تعزيزاً للحياة والواقع الذي نعيشه، القرآن الكريم كتابٌ روحي أُنزل على سيدنا محمد شهيداً ونذيرا، وليس كتاباً تشخيصيّاً يُستغل من قبل الخلق.

المُستغلون لم يَكذبوا على مريضٍ يُريد عناية علاجيّة فعّالة فقط، بل كذبوا على الله سبحانه وتعالى بافترائهم بدينه الكريم، وسنة رسوله باتخاذ الأسباب، فالأمراض أمراض أياً كانت، لا يُمكن علاجها بأي طريقةٍ سوى بالوصفات الطبيّة من بعد إرادة الله، والمداواة بالوصفات الطبيّة ليست اعتراضاً دينياً كما يَعتقد البعض، بل هو تنفيذٌ لما أمرنا به الإسلام بالمداواة واتخاذ الأسباب.

الإسلام دينٌ أُنزل على سيدنا محمدٍ بهويةٍ كاملة وواضحة، فكل من يُشوّه صورته بالاستغلال، وكل من يَفترون فيه ويَستغلونه في أمورهم الشخصيّة والمادية، ويَجعلون المرضى مُعَلّقين بأمل العلاج وهم بأمَس الحاجة إليه.. هؤلاء تحل عليهم البراءة لحين توبتهم.