مع انعقاد قمم مكة (الخليجية العربية الإسلامية) التي دعا إليها خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز في أطهر بقعة وأشرف زمان، تتجلى أهمية هذه اللقاءات على مستوى زعماء الأمة، في ظل ما تمر به من ظروف وتداعيات على مستوى الداخل والخارج، وحاجتها إلى يقظة الضمير، واستدراك ما يمكن استدراكه على كافة المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية، وصياغة خطاب موحد يمثل رسالة الإسلام السمحة، ومنهج الوسطية والاعتدال، ونبذ الكراهية، ومحاربة التطرف، واستيعاب مظاهر العصر، ومجاراة الزمن، وبناء أجيال الأمة لغد أكثر تفاؤلا، بانفتاح يحفظ قيم الخصوصية الإسلامية المتمثلة في حسن المعاملة، والتسامح، وسلوك الرحمة في منهج العيش، والتعاطي مع كل أطياف الجنس البشري، ونفع الإنسانية، وإقامة منهج العدل الذي أوصى به الحق جل جلاله في قوله (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط، ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا، اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون). إن كل ما بذل من جهود تنظيمية، وإعدادات ضخمة، وما سبق القمة من لقاءات ومشاورات وحوارات، على المستوى الوزاري، أو المنظمات، والهيئات ذات العلاقة، وصياغة وثيقة مكة، صب في سعي صادق لإنجاح القمة الرامية لتحقيق تطلعات الشعوب الإسلامية، ورفعة شأنها، ودرء التهديدات والأخطار المحدقة بها، ولكن ترجمة قرارات القمة ووثيقة مكة إلى واقع معاش، هو نقطة الانطلاق نحو التحول المنشود، وهو ما لا يغفل عنه صناع القرار، ومن أجله انطلق نداء خادم الحرمين الشريفين لعقد هذه القمم المتزامنة. إن الحراك السياسي الرفيع، وسباق التسلح المتسارع، لا يكفيان لصناعة غد أفضل، لكنهما ركيزتان لأي حراك آخر، وأساس مهم لبناء منظومة التقدم العلمي والاجتماعي والاقتصادي، وعليه فإن دور المؤسسات المتخصصة في هذه المجالات في هذه المرحلة أهم من أي شيء آخر، ففي المقام الأول تتجه الأنظار دوما إلى مؤسسات التعليم، لترجمة كل التطلعات التنموية، وصياغة الفكر البنّاء، وبما أنها في الوطن الإسلامي تشهد تأخرا مذهلا، غيبها عن الحضور ناهيك عن المنافسة، وأبقاها عاجزة، وبعيدة عن أدوارها، منقطعة الصلات عن بعضها، على مستوى التخطيط والمنهجية، وحتى المحتوى العلمي للعلوم المشتركة بين كافة الأمم والشعوب، فلا تزال كل دولة من دولنا الإسلامية في معزل عن الأخرى، وإن كانت هناك بعض الشراكات الخجولة غير المنتجة، دون أن تكون هناك إسهامات رائدة، ولو فيما نملك من مقومات، ونتميز به من خصائص جغرافية، وثروات طبيعية، وميزات نسبية. وهو ما يؤكد حاجتنا على مستوى الوطن الإسلامي لمراكز البحث العلمية المشتركة أكثر من الحاجة لوجود الهيئات والمنظمات المتشابهة في الأسماء والأدوار، والتي يمكن إعادة تنظيمها، والكفاية منها بما يحقق الأهداف، ويعزز الأثر. وعطفا على أهمية المؤسسات التعليمية فهي لا تتحمل المسؤولية وحدها، لكن نتائج مخرجاتها تصب في بقية مؤسسات المجتمع، وتؤثر فيها، وتصنع الفرق في مجالات العمل، ومعدلات النمو، وفرص الاستثمار، وخلق المنافسة، وبناء الثقة، على مستوى الفرد والمجتمع، والعلاقات، والشراكات الداخلية والخارجية. ولأن عالمنا الإسلامي يمتلك كثيرا من الإمكانات الهائلة المطلوب استغلالها لصالح النماء والنهوض، فيجب تمكين أبنائنا من مهارات إدارتها، واستثمارها، والاعتماد على طاقاتنا البشرية بشكل أساسي، وإعادة ترتيب الثقة في بيتنا الإسلامي، بفتح آفاق أوسع في مجال الشراكات، والاستثمار في عقول فاق عددها المليار، وتوظيفها لتحقيق الاستدامة، والإفادة من النماذج القائمة في بعض دولنا، التي رسمت خطوط البداية، وشرعت في تنفيذ مشاريع النمو بثقة، وعقدت العزم على المنافسة، وحققت قفزات مشهودة في سلم التنافسية العالمية. إن كل الشعوب توّاقة لغد مشرق، ولديها الرغبة في تحقيق الرخاء والنماء، وتتطلع لفتح آفاق من التعاون المثمر فيما بينها، كما تطمح بعض الشعوب المغلوبة على أمرها إلى التحرر من أغلال الطائفية، والخلاص من قيود الكهنوتية، والانعتاق من النظم الميليشياوية، التي تقودها بعض النظم المارقة، وتؤجج العداء عبر بؤرها وفصائلها، التي أنهكت قوى العالم الإسلامي، واستنزفت مقدراته، ووسعت دائرة الشتات والفرقة بين أبناء الأمة الواحدة. فمن أرض مكة انبعث نور الهدى إلى كل العالمين، سلاما ورحمة، فليعد اليوم ذلك الهدى نبراسا يوحد أهدافنا، ويوقظ ضمائرنا، ويعظم في نفوسنا رسالة خير الأديان وخاتمها. لنعود خير أمة أخرجت للناس.