في كل مرة يعلن فيها عن تعيين مسؤولٍ أو استبداله ينقسم الناس بين مؤيّدٍ ومعارضٍ ومتوقف، والمعارض في العادة شخصٌ تغلب عليه طيبة القلب وكرم النفس وصدق الولاء، ولكنه يفتقد بعد النظر وقوة الحسم والتجرّد التام للمصالح العظمى، وحديثنا اليوم موجّهٌ له وللمتوقف الحائر.

إن في التاريخ الإسلامي شواهد وأحداثا كثيرة؛ لو ترك للعواطف أن تتحكّم فيها لما قامت، ولما ظهر للناس الحكم العظام من تلك التصرفات المصلحيّة في التعيين والعزل.

ولعل أهم حادثتين وقف عندهما التاريخ وقفة تأمّلٍ وترقّب هما: حادثة تقليد أسامة بن زيد قيادة جيش رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى غزو الروم وهو ابن ثمانية عشر عاما، وفي الجيش عمر بن الخطاب وغيره من كبار المجاهدين من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، وحادثة عزل أمير المؤمنين الفاروق لخالد بن الوليد رضي الله عنهما من إمارة قنسرين شمالي بلاد الشام ومن قيادة الجيش في فتوح الشام، وخالدٌ هو من قال فيه عليه الصلاة والسلام (اللّهمّ هو سيفٌ من سيوفك، فانصره!).

لقد استنكر الأنصار تولية أسامة، وطلبوا أن يستبدل به من هو أقدم سنا منه، فلم يستجب لهم الصديق رضي الله عنه، كما واجه الفاروق معارضة على عزله سيف الله المسلول، فلم يلتفت لمن عارضه، وكانت الحكمة متجلية في الحادثتين، ولم تتبين للمعارضين إلا بعد حصولها.

وفي تاريخنا القضائي المعاصر يحدث بين الحين والحين تغييراتٌ في القيادات القضائية، نحار في بعضها، ونستبطئ بعضها الآخر، غير أن من يمعن النظر في تلك القرارات يعجب لحكمة الله أولا في تقديرها، ثم في توفيق الله لولي الأمر في العزم على اتخاذها والحزم في الإقدام عليها، وهي مما يختلف عليها الخاصة قبل العامة.

سنركز في هذا المقال على انتقاش الدروس والعبر من تلك الأحداث، فنقول:

أولا/ لا بد للمسلم من تقديم النظر إلى المصلحة العظمى قبل تسليط الضوء على أفراد تلك الأحداث؛ فإن قدوم شخصٍ ورحيل آخر لا يعنيان في ميزان الأمم شيئا، فكلا الأمرين لا يعدو أن يكون مسرّعا أو مبطّئا لعجلة التقدم، أما مصير الأمة فهو محسوم بغير مقدم هذا ولا رحيل ذاك.

ثانيا/ إن على المنصف أن يعلم أن الراحل - إن كان ذا نفعٍ متجددٍ - فسيجد مجالا جديدا يظهر فيه نفعه؛ متى توافرت الهمة وصدقت النية، فالفشل عند العظماء درجةٌ من درجات تصحيح المسار، وحجر صعودٍ إلى النجاح.

ثالثا/ إن الله لم يجعل مصالح عباده معلقة بأعيان الأشخاص، وإلا لما قضى بالموت على خيرة خلقه من الأنبياء والرسل، ومن هذا المنطلق: فإنّ من مات أو عزل أو استبدل بغيره: فإن الله سيجعل في خلفه خيرا لعباده إن استحقوا المنّة عليهم بمن هو خير؛ قال جل ثناؤه: {وإن تتولّوا يستبدل قوما غيركم ثمّ لا يكونوا أمثالكم}.

رابعا/ إن الله حين يبتلي عباده بخلفٍ هو شرٌ ممن سبقه: فما ذلك إلا بذنبٍ استحقوا أن يبتلوا عليه؛ ليتذكروا ويصلحوا أمرهم، فتعود الكرة لهم؛ قال تعالى {فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأسٍ شديدٍ فجاسوا خلال الدّيار وكان وعدا مفعولا (5) ثمّ رددنا لكم الكرّة عليهم وأمددناكم بأموالٍ وبنين وجعلناكم أكثر نفيرا}.

خامسا/ إن الله يهدي عباده طريقي الخير والشر، ثم ينظر كيف يعملون؛ إمعانا في الابتلاء لهم ولمن ابتلي بهم، ثم إن ما يصدر منهم بعد ذلك من خيرٍ وصلاحٍ، أو مما يرونه شرا في الظاهر: كله خيرٌ لجميعهم؛ إما لرفع درجاتهم، أو محو سيئاتهم، أو لدفع البلايا العظام عنهم؛ متى شكروا في سرائهم، وصبروا في ضرائهم.

سادسا/ إن الله حين يؤتي عباده الصالحين من الولايات ما يمكّنهم بها أن يرفعوا من درجاتهم في الدنيا والآخرة بما ينفعون به العباد والبلاد: فإنه لا يوحي إليهم بكل ما يفعلون وما يدعون، بل إنه تبارك وتعالى يترك أمر الإقدام على الأفعال والإحجام عنها لهم ولمن يستنصحون برأيه ومن يستعينون به.

سابعا/ إن توفيق الله لمن تقلد الولاية لا يبلغ تمامه إلا إذا أحسن اختياره لأعوانه؛ قال عليه الصلاة والسلام (من ولي منكم عملا، فأراد اللّه به خيرا: جعل له وزيرا صالحا؛ إن نسي ذكّره، وإن ذكر أعانه).

ثامناً/ إن عزل صاحب المنصب ليس شرا محضا، بل هو تذكيرٌ له بخطئه، وتمكينٌ له بتعجيل توبته، قال عليه الصلاة والسلام (إذا أراد اللّه بعبده الخير عجّل له العقوبة في الدّنيا، وإذا أراد اللّه بعبده الشّرّ أمسك عنه بذنبه حتّى يوافي به يوم القيامة).

تاسعا/ لو أنّ متقلدي المناصب تذكروا سير من سبقوهم لقللوا من فرص فشلهم، ولزادوا من إمكانات نجاحهم، ولتمكّنوا من أن ينفعوا غيرهم كما أريد منهم.

عاشرا/ إن من بهر المنصب لبّه وخلب عقله وغفل عما لحق بمن قبله: سيلقى من المصير الماحق أسوأ مما نزل بأسلافه؛ لعدم اعتباره بما حلّ بهم؛ قال عز وجل {أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوبٌ يعقلون بها أو آذانٌ يسمعون بها}.

حادي عشر/ إن على من ابتلي بمثل هؤلاء المسيئين لمناصبهم - من عامة الناس وخاصتهم - أن يتيقنوا أنّ الله يعلم المفسد من المصلح، وأن الله لهم جميعا بالمرصاد، وأن الله يملي للظالم منهم حتى إذا أخذه لم يفلته.

ثاني عشر/ إن الله سبحانه وتعالى لا يضيع أجر المصلحين، فمن استعان بالله من الولاة على أداء أمانته، وصدق في قصده، وحرص على اتخاذ أسباب ذلك: فهو حريٌ بكل خير وتوفيق، وكذلك المولّى عليهم إذا صلحوا؛ قال جلت عظمته {وما كان ربّك ليهلك القرى بظلمٍ وأهلها مصلحون}.