كلما طاف بالنفس خاطر عن النبي الكريم صلوات الله وسلامه عليه. أحسست أن نفسي تجيش بعواطف كثيرة لا أملك تحديدها، كما أملك ذلك إذا تمثلت أي بطل من أبطال التاريخ.

إن هذا الذي أحسه إذا تمثلت النبي الكريم شيء آخر، أريد أن أقول: إنه الحب وحده فلا أستطيع.. ولقد تخيرت كلمة «الحب»، و«الحب» في دنيا المعاني حياة مؤثرة ما تضيق بعشرات العواطف وما بينها من نقائض وأشباه ومفارقات.. ولكن هذا «الحب» لا يسعه أن يفسر تأثر الإحساس واحتدام العواطف إذا طاف بالنفس خاطر عن محمد عليه الصلاة والسلام.

سمه - إذا شئت - الحب، أو تقديس البطولة أو الإجلال أو فتنة الإعجاب، أو رهبة الاحترام.. أو سمه مزيجا من أولئك جميعا، فما أنت بالغ بعض ما يلوب في الضمير عند ذكرى (محمد).

إن هذا التحديد اللفظي لا يعنيني بقدر ما تعنيني حقيقة شعوري.. ولكنني أرمز لهذا الشعور بكلمة الحب والإجلال وبالاستجابة الخاشعة عند ذكراه.

إنك لتبدأ فتستعرض حياة (محمد) وتقرؤها منذ ولدته أمه حتى استراح للرفيق الأعلى..

إنها تأسر القلب طويلا، حياة الطفل اليتيم وهو يترعرع وينمو في حجور كريمة أين منها - ولا شك - بر الوالدين وحنانهما فيما يحس اللحم والدم، وفيما تنبض به فلذة الكبد؟ فإذا انطوت أيام وأيام، فقد غدا الطفل اليتيم يرعى البهم بين أقرانه في مضارب الخيام.. وتتقلب به الحياة حتى يشب..

فإذا أنت لا تملك - وقد تتبعت سيرته حتى يشب غير أن تحس في نفسك شعورا يمتزج فيه الحنان بالشفقة، وبالحب، والعطف، مع الاحترام كما لو ترعرع على مرأى ومسمع منك. أي طفل يتيم كريم لا يكرب بشخصه، ولا يثير غير النوازع ذاتها في النفوس كلها، حتى إذا شب وتدرجت به الحياة في غمار الأسفار، وحياة الأخذ والعطاء أخذ يستغرق الإحساس بشبابه العامل المتوثب، ونضجه المتفتح.. ثم لا تلبث حتى يروعك سلوكه المستقيم.. لا يكاد يلتقي بسلوك شباب الحي إلا كما يلتقي النقيضان.

وتتقلب به الحياة حتى يتزوج، فتتساءل: ألم يكن في وسعه أن يتزوج وأن يعول بكرا؟ وتقول عوامل الحب والوفاء: ذاك عمل طبيعي قد التقت فيه نفسان.. أما الزمن فهو في حسابهما لغو باطل.. ولا يسعك سوى أن تكبر الفتى، وأن تصفق لهذا المشهد الحي في بداية شبابه الحي.

ولا تكاد تسلمك فترة شبابه إلى الفترة الحاسمة في تاريخه الحي، حتى تكون قد أسلمتك عشرات الأحاسيس لنهاية عاطفية تحس معها أن أقوى الأوامر تشدك إلى هذا البطل العظيم.

وتشرق الفترة الحاسمة في تاريخه وقد بلغ الأربعين، فإذا هو نبي رسول.. وقد يخيل إليك عند ذاك أن دورا إنسانيا قد انتهى، ليبدأ البطل دورا روحيا عظيما فحسب.. ولكن واقع البطل يخلف خيالك وظنك، فأنت تتبع سيرته إلى اللحظة الأخيرة، فما تبحث عن الإنسانية التي بدت طلائعها لعينيك من قبل، وحتى تملأ إحساسك بومضها العظيم، فلا يمنعك سوى أن تمضي معها بقلب ملؤه الاستجابة الخاشعة والإيمان الكامل.

8 أضواء على الطريق