كثير من المشكلات التي تبدو معقدة ومتشابكة يمكن حلها بتحليل عناصرها الأولية، ثم دراسة مسببات المشكلة والبدائل الممكنة لحلها.

ومن المشكلات المتأزمة في بلادنا، مشكلة عدم توافر المسكن الميسر للمواطنين، على الرغم مما تبذله الدولة من دعم وقروض ميسرة «الصندوق العقاري» سابقاً. ومنذ إنشاء وزارة الإسكان تفاءل المواطنون بسهولة توافر السكن، لكن هناك مشكلة بعد توقف القروض الميسرة من الصندوق، فأين تكمن المشكلة؟.

الجواب على هذا السؤال يتطلب منا اتباع الأسلوب المنهجي في تحليل عناصر المشكلة واقتراح الحلول. وتتلخص المشكلة في عدد من العناصر، أهمها: الأراضي الصالحة للسكن، ومواد البناء والجودة الشاملة، والتمويل، والهيكلة الإدارية والتشريعات. ويبدو أن وزارة الإسكان حاليا تناقش الموضوع من عنصر واحد فقط، وهو العنصر الصعب في المشكلة، وذلك بسبب أنها ورثت «صندوق التنمية العقارية» من وزارة المالية، وتناقش الموضوع من مفهوم وزارة المالية، وهي بفكر «صندوق تمويل» فقط. وفي رأيي أن هذا في زمن سابق، وهو زمن «الاقتصاد الريعي».

أولا: الأراضي الصالحة للسكن

كي أبني منزلا، لا بد من توافر «أرض صالحة للسكن»، ومعنى صالحة للسكن أي تتوافر بها جميع الخدمات الضرورية للعيش «مياه صالحة للشرب، كهرباء، صرف صحي، نقل مناسب يشمل ذلك الطرق المسفلتة». وفي رأيي أن هذه أكبر مشكلة تواجه الإسكان، ولكنها أسهلها حلا فالأراضي متوافرة عند كل المدن، فلسنا كاليابان التي تردم البحر لتوفير الأراضي، ولسنا كالسويد التي تعتمد على الزراعة والغابات، ولا تفرط في أراضيها للمخططات السكنية. و«رسوم الأراضي السكنية» أثبتت نجاحها في كبح جشع تجار التراب، أما خدمات المياه والكهرباء فهي لشركات، ووصولها سهل جدا ولا يمثل مشكلة كبيرة، بشرط توافر المخططات المناسبة، وتواجه ذلك التكلفة الكبيرة للخدمات مثل الطرق والمياه والصرف الصحي. وفي رأيي فإن الابتعاد عن المدن أفضل حل، أو إلزام مالكي الأراضي بتخطيطها «رسوم الأراضي الفضاء»، وذلك لانخفاض تكلفة الخدمات لها، وبالتالي انخفاض قيمة الأرض التي تمثل 50% من تكلفة المسكن، والتي لا يتم التفكير فيها من الوزارة، لأن المسؤول عنها وزارة الشؤون البلدية والقروية، التي تواجهها مشكلة كبيرة وهي التعديات على الأراضي، وإصدار وثائق تملّك لها من وزارة أخرى، هي وزارة العدل، وأثق أنه لو تم حل مشكلة الأراضي، لما احتاجت نسب كثيرة من المواطنين إلى قروض الصندوق.

التصاميم ومواد البناء والجودة

أعطني تصميما ومواد جيدة ولا تعطني قرضا!. إن أهم عنصر مهمل تماما من الجهات المعنية هو «الجودة الشاملة» للبناء، بمعنى أن أي مسكن يتم بناؤه يجب أن يبدأ بالتصميم الملائم حسب احتياجات المواطن وتصوره، ولا أبالغ إذا قلت إن المساحات المهدرة والتغييرات في التنفيذ بسبب عدم مناسبة التصاميم تستهلك ما نسبته 20% من تكلفة المبنى على الأقل، إذ إنه لا توجد مكاتب هندسية مؤهلة للتصاميم الشاملة للخدمات بكاملها، أعطوني مكتبا واحدا يصمم العزل الحراري والمائي وطريقة تنفيذه، أعطوني مكتبا يصمم النوافذ والأبواب والجبس وأعمال السباكة ومواقع الأثاث، وغيرها، أعطوني مكتبا يصمم تمديدات الكهرباء المناسبة، إلا بتكاليف كبيرة، فيلجأ المواطن إلى المقاول المنفذ للتصميم. وأهم من ذلك أعمال الإشراف والمتابعة للتنفيذ وإجراء القياسات والتحقق من جودة المواد، إذ إن سوء المواد المستخدمة في البناء، يكلف المواطن كثيرا خلال البناء وبعده، مثل الخرسانة والحديد والتربة ومواد السباكة وتمديدات الكهرباء والدهانات والجبس والأبواب والبلاط، التي تباع في السوق دون أي رقابة. وإنني على يقين أن وزارة الإسكان لو تولّت فقط هذا العنصر الذي لا يحتاج إلى تمويل، لحلّت جزءًا كبيراً من أزمة الإسكان حسبما يلي:

تتولى وزارة الإسكان عمل التصاميم لكل مواطن يطلبها، وذلك من خبراء ومكاتب يعدون نماذج متنوعة للفلل والمباني، وإجراء بعض التعديلات عليها

«حسب رغبة المواطن»، وتعريفه بالتكاليف التي ستضاف في حالة التعديلات، ويجب أن يكون ذلك عن طريق الطلب، إما بالتقديم الإلكتروني أو رقم مجاني لدى «الوزارة» التي تستقبل الطلب، وتقديم النموذج التصميمي المناسب للمواطن، خلال عدد من الخيارات التي تتناسب مع المواد المتوافرة ومقاساتها.

«مثال على ذلك مواد العزل الفائقة الجودة»، فشكل المبنى ولونه وارتفاعه وتناسقه شأن عام، ومن يتولاه حاليا هي وزارة أخرى غير الإسكان، وهي «وزارة الشؤون البلدية والقروية»، ويجب أن تحول هذه المهمة إلى وزارة الإسكان، إذ إن التصاميم وجودة المواد من أهم العناصر التي تضع المواطن في حيرة من أمره، ويدفع تكاليف غير منظور إليها، وهي سبب كبير لارتفاع تكلفة البناء.

متابعة الإشراف على التنفيذ وجودة مواد البناء من قبل وزارة الإسكان:

نعلم أن وزارة الصحة تتابع الصيدليات ووزارة الشؤون البلدية والقروية تتابع المطاعم فمن يتابع سوق (مواد البناء)؟! سنجد أن لا متابع لها، والمواطن يقع ضحية المواد الرديئة بسبب أنه هو من يصمم ويشرف ويختار مواد البناء، ما جعل سوق مواد البناء يستغل جهل المواطن ويبيع مواد مغشوشة، ومن ناحية التنفيذ ليس أمام المواطن إلا اللجوء للعمالة السائبة التي تنفذ ما يسمى (البناء التجاري)، الذي يعتمد على سرعة تنفيذ يحتاج إلى تعديلات قد توازي تكلفة المبنى، ويتم استخدام (مواد تجارية في البناء) سعيا وراء الكسب المادي فلا رقيب على مواد البناء ولا رقيب على البناء!!

وعلى ذلك وحسب هذا العنصر من عناصر المشكلة، فإن الحل يأتي عن طريق ضبط سوق مواد البناء الذي أكاد أجزم أنه في حالة تولي وزارة الإسكان سوق البناء ومواد البناء ستنتهي مشكلة السكن، وسيتملك المواطنون مساكن خلال فترة قصيرة بدلا من دخول وزارة الإسكان كممول ودخولها نفقا غير معروف، وعدم استطاعتها التمويل بالقروض التي تذهب لجيوب (تجار مواد البناء) وجيوب العمالة الرديئة التي تكلف أموالا باهظة ببناء مغشوش، وسيستطيع المواطن تملك مسكن، بتمويل ذاتي حسب دخله.

تقوم وزارة الإسكان حاليا بالتفكير بقضية التمويل وهو تفكير بأحد عناصر المشكلة، وهو أعقدها، ووصلت لحلول جيدة وعليها الذهاب للطريق الآخر (التصميم ومواد البناء والجودة الشاملة)، ثم التفكير بالتمويل عن طريق التقسيط، وهو طريق سهل، حيث ستنخفض تكاليف البناء بإحكام الرقابة على سوق البناء (مواد وتنفيذ)، ومن ثم حل المشكلة التمويلية بعدة طرق منها:

في حالة ملكية الأرض: غالبا فإن من يمتلك الأرض فإنه يرغب بمسكن بموقع متميز وبمواصفات تناسب ذوقه، ولديه مصدر دخل يمكن الاعتماد عليه في تمويل بناء المسكن وتسديد التكاليف خلال فترة قصيره، لهذا يتم

بناء المنزل بإشراف وزارة الإسكان (عن طريق شركات) وتقسيط ثمنه على المواطن حسب سنوات يتم حسابها حسب القسط السنوي (نظام الصندوق العقاري سابقا)، ولكن لا يتم إعطاء قرض للمواطن إلا بمقدار ما يمكنه من اكتمال أعمال البناء.

في حالة عدم ملكية الأرض: غالبا فإن من لا يمتلك أرضا فليس لديه القدرة على بناء المسكن، وهذه الفئة يجب معاملتها معاملة (نظام الصندوق العقاري)، ولكن مع عدم إعطاء قرض نقدي وإنما بنظام التقسيط العقاري، حيث يكون الصندوق مشرفا على المطورين العقاريين لبناء وحدات سكنية مختلفة الفئات والمساحات بأحياء سكنية، تماما مثل ما تم عمله سابقا بمشاريع (الإسكان) التي هي ملكية الصندوق العقاري، وأثبتت نجاحا باهرا بجميع النواحي، وخاصة انخفاض تكلفة (المسكن والأرض) وجودة البناء واكتمال الخدمات، وهي تجربة رائعة بكل المقاييس، ومن ثم يقوم الصندوق بالتقسيط على المواطنين بسعر التكلفة، وهذا سيخفض التكاليف كثيرا على المواطن مقارنة بالبناء الفردي الرديء بسوق المقاولين التجاري والمواد المغشوشة غالبا.

الهيكلة الإدارية والتشريعات

هذا العنصر من عناصر المشكلة يتلخص بضرورة توحيد الجهة المسؤولة عن الإسكان، حيث إن وزارة الإسكان حاليا ورثت الصندوق العقاري من وزارة المالية وتقوم بدوره، حيث إن وزارة الشؤون البلدية والقروية مسؤولة عن التنمية العمرانية والمخططات واستعمالات الأراضي، ووزارة العدل مسؤولة عن تملك العقار، ووزارة التجارة عن سوق المقاولات وسوق مواد البناء، ولهذا يجب إعطاء وزارة الإسكان دورا أكبر يتمثل في الإشراف على سوق التصاميم للمساكن وتأسيس إدارة فنية بها تتولى دور تصميم المسكن للمواطن (في حالة البناء الفردي)، واعتماد التصاميم والتراخيص للمباني السكنية من وزارة الإسكان بدلا من وزارة الشؤون البلدية والقروية، فوزارة الإسكان هي التي تقرر الحجم المناسب للسكن وفراغاته والعدد المطلوب من المساكن ونوعها والمواد المستخدمة في البناء، فقد ضاع تصميم المسكن بين وزارتي الإسكان ووزارة الشؤون البلدية والقروية التي يعنيها الارتدادات وارتفاعات المباني، وكذلك تملك الأراضي والتسجيل العيني للعقارات الذي يجب أن يتم ضبطه ومتابعته من قبل وزارة الإسكان ومنح وثائق التملك (الصكوك) من قبل وزارة العدل.

وأخيرا أتمنى دراسة هذه المقترحات التي آمل أن تساهم في حل أزمة الإسكان، وأثق تماما بمجلس الشؤون الاقتصادية والتنموية الذي يقوده الأمير الهمام محمد بن سلمان ولي العهد حفظه الله ورعاه، والذي وضع ضمن رؤية 2030 توفر السكن للمواطن بسهولة ويسر، والذي ينضوي تحت قبته جميع الجهات المسؤولة عن الإسكان.

ويبذل معالي وزير الإسكان المهندس ماجد الحقيل جهودا خارقة، وبدأ بحلول إبداعية لهذه القضية تتمثل بتعدد الحلول السكنية أمام المواطن، ومراعاة ذوي الدخل المحدود ودعم المطورين العقاريين للدخول بمشاريع وحلول الإسكان، وهذه الخطوات خطوات ملموسة وجيدة والحاجة ماسة لإعطاء هذه الوزارة دورا أكبر والله الموفق.