يواصل أوشو نثر الحكمة في كتاب "بذور الحكمة" الذي ترجمه الدكتور عبدالوهاب المقالح وصدر عن دار مدارك، ليتناول بعد أن عرّج على المعرفة والوعي والخوف، مسائل ذات علاقة باللاعنف واللاسرقة، وكيف يحيل المرء نفسه إلى سجن داخلي مظلم.

يركز أوشو على التأمل، ويدعو إلى الحياة والصبر والأناة، ويرى أن القبح في السلوك الخارجي هو انعكاس وعلامة للعلة الداخلية.

الزهور

انقضى عام منذ أن بذرت بعض البذور، وها هي ذي الزهور قد تفتحت الآن.. ما أشد ما رغبت في أن تتفتح الزهور على الفور، غير أنها لا تتفتح هكذا.

إن أراد أحد زهوراً فعليه أن يبذر البذور.. عليه أن يعتني بالنبات، وبعدئذ سيرى في الأخير ما انتظره طويلاً هذه العملية صحيحة تماماً، ليس فقط فيما يتعلق بالزهور بل فيما يتعلق بالحياة ذاتها.

اللاعنف، اللاتملك للهبات، اللاسرقة، الحقيقة والعزوبية هذه هي الزهور التي تتولد من الحياة الصائبة القويمة. وما من أحد يمكنه أن يحققها على الفور، ولكي نحققها علينا أن نبذر بذرة التحقق الذاتي. وما إن تنبت حتى تتبعها هذه مجتمعة من تلقاء ذاتها. التحقق الذاتي هو الجذر، وكل ما عداه هو نتيجة القبح في السلوك الخارجي وهو علامة العلة الداخلية، في حين أن الجمال هو صدى الحياة الداخلية وموسيقاها.. ولذا فما من شيء يمكن أن يُنال بتغيير الأعراض التغيير يجب أن يتم في جذور الشر ذاتها.

سجن

أمطرت في الليلة الماضية. دخلت فوجدت النوافذ مغلقة وكان الجو خانقاً، ففتحت النوافذ وانسابت الطراوة وهبّت الرياح الندية إلى الداخل.. غرقت في النوم العميق ولم أعد أعرف شيئاً.

وفي الصباح جاء رجل لزيارتي ولما رأيته شعرت باختناق الليلة البارحة لقد بدا كما لو أن كل نوافذ عقله وأبوابه مغلقة دون أن يترك نافذة واحدة يمكن للهواء أن ينفذ منها، كان كل شيء فيه موصداً. كنت أتحدث إليه وأنا أشعر كأنني أتحدث إلى الجدران! ثم خطر لي أن الغالبية من الناس هم مغلقون بهذه الطريقة ومحرومون من الجمال وطراوة الحياة ونداوتها.

إن الإنسان يحيل نفسه إلى سجن خاص، فيشعر باختناق وإحباط السجن دون أن يكون قادراً على معرفة السبب في هذا كله معرفة المصدر الأساسي لذلك الضجر والتوتر. وتنقضي حياته كلها على هذا النحو، إن من كان باستطاعته أن يحلق منتشياً في السماء المفتوحة، يموت محبوساً في قفص ببغاء.

بإزالة جدران العقل، تنال السماء المفتوحة وهذه السماء المفتوحة الفسيحة هي الحياة.. كل إنسان باستطاعته بلوغ هذه الحرية، وكل إنسان عليه أن ينال هذه الحرية.

العقل

ما أردده هي أمور قليلة محدودة يمكن أن تعد بأصابع اليد.

الأمر الأول: العقل يجب أن يعرف العقل الشديد القرب، والمجهول كلياً أو يكاد.

الأمر الثاني: العقل يجب أن يحول العقل العنيد الجامح، والشديد الرغبة في التحول.

الأمر الثالث: العقل يجب أن يحرر العقل المكبل تماماً، لكن تحريره ممكن هنا والآن.

هذه الأمور هي ثلاثة بالاسم فقط، وفي الحقيقة فإن أمراً واحداً فقط يجب أن يتم، ألا وهو "أن نعرف العقل". فإذا تحقق هذا، فإن الأمرين الآخرين سيتحققان من تلقاء نفسيهما. المعرفة هي التحول الوحيد، والمعرفة هي التحرر الوحيد.

ذكرت هذا بالأمس عندما سأل شخص ما: "كيف يحدث العرفان؟"

العرفان يحدث من خلال اليقظة. إن أنشطة أجسامنا وعقولنا هي أنشطة لا واعية. ومن الضروري أن نستيقظ ونعي كل نشاط حين يكون المرء ماشياً أو جالساً، أو مستيقظاً، يجب أن يكون مدركاً ذاكراً تماماً على النحو السليم لما يفعله. "أنا أرغب في أن أجلس"، عليه أن يكون مستيقظاً منتبهاً لهذه الرغبة ولهذا الشعور أيضاً. وسواء كان هناك غضب في العقل أم لا -فعلى الإنسان أن يشاهد هذه الحالة أيضاً.. وإذا كانت الخواطر والأفكار تتنقل أم لا -عليه أن يكون مشاهداً لها أيضاً.

معاناة

ازداد الليل عمقاً ليس في السماء سوى القليل من النجوم، ولا يزال قمراً مكتملاً عالقاً في الأفق الغربي.. تفتحت أزهار الياسمين ونشرت عبيرها في الأجواء.

ودعت سيدة لا أعرفها إلى الباب، وعدت كانت بعض المعاناة قد أقلقت بالها، وأحاطتها بالظلمة. أدركت ظلمة تلك المعاناة أول ما دخلت. ومن دون أن تضيع وقتاً، سألتني مباشرة: "أيمكن القضاء على المعاناة؟"

نظرت إليها، فبدت لي وكأنها تمثال يجسد المعاناة.

الناس جميعاً يصيرون رويداً رويداً تماثيلاً للمعاناة. وكلهم يريدون القضاء على المعاناة، لكنهم لا يقدرون على ذلك لأن تشخيصهم للمعاناة غير صحيح.

المعاناة توجد في حالة محددة من حالات الوعي، إنها السمة المميزة لتلك الحالة. وفي تلك الحالة، لا توجد حرية من المعاناة، لأن الحالة نفسها هي المعاناة. وأنت واقع فيها، إن أزلت حزناً، حل مكانه آخر، وتتواصل حلقات هذه السلسلة. قد تحرر نفسك من هذا الحزن أو ذاك، أما التحرر من المعاناة فلا يحدث. المعاناة باقية، وما تغير هو السبب فقط.

القضاء على المعاناة والتحرر منها يحدث عند تغيير حالة الوعي، وليس في التحرر من حزن بعينه.

وهناك حالتان للوعي الإنساني: الأولى هي الجهل، والثانية هي المعرفة -الأولى تنجم عن التماهي بالآخر، والثانية تنجم عن تحقق الذات. فطالما ماهيت نفسي مع الآخر فثمة معاناة. هذا الوثاق والتعلق بالآخر هو المعاناة. التحرر من الآخر، تحقيق الذات، الكينونة في الذات -هي القضاء على المعاناة. إنني لست "أنا" بعد، ولذا أعاني. وحين أصير "أنا" حقاً، تنتهي المعاناة.

الغيبوبة

خرجت جماعة من الناس من إحدى الحانات، واتجهت صوب النهر للقيام بجولة في القارب.. ظلوا يجذفون من منتصف الليل حتى الفجر. وحين هبت رياح الصبح الباردة، وارتفعت الشمس، بدأت سكرتهم تتلاشى. رأوا أن وقت عودتهم قد حان، فنزلوا إلى ضفة النهر ليروا المسافة التي ارتحلوها. لكن دهشتهم قد بلغت ذروتها عندما اكتشفوا أن القارب يقف تماماً في البقعة التي وجدوه فيها الليلة الماضية. لقد نسوا في الليل أن التجذيف وحده لم يكن كافياً؛ فلا بد للقارب أيضاً أن يُفك من مرساته.

ذكرت هذه الحكاية في المساء، فقال سيد عجوز قدم لزيارتي: "لقد ظللت أسير طوال حياتي، لكني الآن أشعر أنني في نهاية المطاف لم أصل إلى أي مكان." وله بالذات حكيت هذه الحكاية.

الإنسان غير واع. أن جهله بنفسه هو الغيبوبة. وفي هذه الغيبوبة، تكون كل أفعاله أفعالاً آلية. وهو يتحرك في حالة الغباء هذه كما لو أنه نائم، فلا يصل إلى أي مكان.

وكما ظلت سلاسل ذلك القارب مربوطة إلى صارية ما في ضفة النهر، كذلك ظل هذا السيد العجوز موثقاً في مكان ما.

الدين يسمي هذه العبودية.. الرغبة. فالإنسان الموثق برغباته يظل تحت سيطرة وهم الوصول شيئاً فشيئاً إلى السعادة، غير أن ذلك الاندفاع يتكشف ذات يوم أنه لم يكن سوى سعي محموم وراء سراب. فمهما جذف، فإن قاربه سيظل على شاطئ اللاإنجاز. وبعد ذلك، يغادر هذه الحياة خالي الوفاض.

الرغبة بطبيعتها لا تشبع. الحياة تجري، والحياة التي كان ينبغي أن تتم في الشاطئ الآخر، الحياة التي كان ينبغي أن تصل إلى غايتها -تلك الحياة تذهب سدى، ثم نكتشف أن القارب لم يتزحزح من مكانه.

كل بحار يعرف أن القارب لا بد أن يفك من مرساته قبل أن ينطلق في المحيط. وكل إنسان أيضاً يجب أن يعرف أنه قبل إطلاق قارب حياته في محيط السعادة والإنجاز والنور، لا بد لسلاسل الرغبة أن تفك من الشاطئ. بعد ذلك، ربما كان التجذيف غير ضروري.

خيالات

جاءني في ساعات الصباح الأولى أحد الشبان. بدا حزيناً، ويبدو أنه يشعر بالوحدة تغلفه من الداخل. كان يبدو كما لو أنه فقد شيئاً ما، وعيناه تبحثان عنه. لقد داوم على زيارتي عاماً كاملاً، وكنت متأكداً أنه سيأتي إلي ذات يوم وهو على هذه الحال التي هو عليها اليوم. كان من قبل يتمتع بسعادة متخيلة، لكنها الآن قد تبددت بالتدريج.

صمتنا قليلاً، ثم أغمض الشاب عينيه، وبدا مستغرقاً في التفكير بشيء ما. بعد ذلك تكلم بصراحة، قائلاً: "لقد فقدت ثقتي. لقد عشت في أحلام تبددت ولم يبق منها شيء. أنا أشعر بالحيرة. لم يحدث من قبل أن شعرت بمثل هذا اليأس. إني أريد أن أعود إلى ما كنت عليه، لكن ذلك لا يبدو ممكناً هو الآخر. لقد تحطم ذلك الجسر."

قلت له: "إن ما لم يكن حقيقياً هو وحده الذي يمكن أن ينزع منك. ومن المستحيل زوال ما هو حقيقي فيك. الوحدة قمعت في اللاشعور فقط -إنها لم تزل بصحبة الأحلام والخيالات. السعادة المكتسبة بواسطة الخيال والإسقاطات الذهنية عن الله ليست سعادة حقيقية. إنها وهم، ولا يعتمد عليها. وكلما أسرع الإنسان في التخلص من الوهم، كان ذلك أفضل.

دمى

ثمة طفلة تبكي. لقد انكسرت دميتها. لما سمعتها خطر لي السؤال التالي: أليست كل دموعنا هي دموع على دمى محطمة؟

مساء أمس، جاء إلي رجل عجوز. كل ما تمناه في الحياة لم يتحقق، وكان محزوناً مكروباً. واليوم قابلت سيدةً كانت بين الفينة والفينة تجفف دموعها وهي تحدثني. كان لها هي الأخرى أحلام ولم تتحقق.

وها هي الطفلة الآن تبكي. ألا تعكس دموعها كل دموع العالم؟ ألم يتخذ السبب الرئيس لكل الدموع شكل الدمية المكسورة الملقاة أمام الطفلة؟ ها إن شخصاً ما يواسيها الآن، قائلاً: "على ما تبكين؟ إنها مجرد دمية، ما الذي يدعوك للبكاء؟" لما سمعت كلماته لم أتمالك نفسي من الضحك. لو أن الإنسان أدرك هذه الحقيقة، ألن تنتهي كل أحزانه؟ يا إلهي، ما أصعب أن يفهم الإنسان أن الدمية هي مجرد دمية!

من النادر أن ينضج الإنسان إلى الدرجة التي تمكنه من فهم هذه الحقيقة. إن نضج بدن الإنسان واكتمل نموه هو شيء، أما نضج الإنسان نفسه فهو أمر آخر مختلف. فما هو النضج؟

نضج الإنسان هو أن يصير متحرراً من سيطرة العقل. فما دام العقل هو المسيطر، فإنه سيواصل خلق الدمى. والتحرر من الدمى يحدث بمجرد أن يتحرر الإنسان من سيطرة العقل.

المهرب

لم يأذن الليل بعد للفجر بالسطوع، والسماء لا تزال مرصعة بنجوم متفرقة تتأهب للرحيل. والنهر يبدو مثل جدول رقيق من الفضة. الرمل بارد تغطيه قطرات الندى، والريح قوية باردة. سكون عميق، تزيده أصوات العصافير بين اللحظة والأخرى سكوناً ورسوخاً.

اصطحبت معي رفيقاً، وجئنا إلى هذا المكان المنعزل في هذا الوقت المبكر. قال رفيقي إنه يشعر بالخوف في الأماكن المنعزلة، كما يشعر أن السكون يعضه عضاً. فإن تشاغل بشيء ما، فلا بأس وإلا فإن نوعاً غريباً من الكرب والحزن يستولي عليه تماماً.

هذا الكرب، وهذا الحزن يستوليان على كل إنسان. ما من أحد يود مواجهة نفسه. أن ينظر الإنسان إلى نفسه، فإنه يشعر بالحيرة والارتباك. ولأن المعتزلات تترك الإنسان وحيداً مع نفسه، فإنها مخيفة. إن كنت مختلطاً بالآخر، فإنك تنسى نفسك. وذلك هو نوع من أنواع الغيبوبة والهروب. إن الإنسان يبقي نفسه مشغولاً طوال حياته في مهرب كهذا. غير أن هذا المهرب مؤقت، إذ ما من سبيل لأن يهرب الإنسان من نفسه. كيف يمكن لأي أحد أن يهرب من نفسه؟ باستطاعتنا أن نهرب من كل شيء، لكننا لا نقدر على الهرب من أنفسنا. وبعد أن ظللنا حياتنا كلها نهرب من أنفسنا، نجد في الأخير أننا لم نصل إلى أي مكان. ولذا، فإن الأذكياء لا يهربون من أنفسهم، بل يقفون أمامها وجهاً لوجه.

إذا ما نظر الإنسان إلى الداخل، فإنه يحيا الفراغ ويخبره. ثمة فراغ لا حدود له في الداخل. ولذلك يحتار الإنسان ويهرب نحو الخارج. إنه يبذل جهوداً جبارة لكي يملأ ذلك الفراغ. يريد أن يملأه بالعالم، بالصحبة، بأي شيء. لكنه لا يمكن أن يملأ بأي وسيلة -من المستحيل أن تملأه- وذلك هو الكرب والإخفاق في الحياة اللذان يجد الإنسان نفسه فيهما. الموت يقذف بالشخص إلى هذا الفراغ ذاته الذي ظل يهرب منه طوال حياته. وهذا هو السبب في أن الخوف من الموت هو أشد أنواع الخوف.

إنني أرى أن الهروب من فراغ الذات هو الجهل. وبمواجهته والدخول فيه، يحقق الإنسان حياته. إننا ببلوغنا ذلك الفراغ، نحقق طبيعتنا الحقة.

الدين هو مدخل إلى هذا الفراغ. ما يخبره الإنسان في نفسه في الوحدة التامة هو التدين الحق.

الحياة

ما الذي نعرفه بوصفة الحياة- ما هي؟

وجه شخص ما في الليلة الماضية هذا السؤال إلي. فحدثته بهذه الحكاية.

كان ذات مرة رجل عجوز وشاب يجلسان على كرسيين بسيطين في حجرة الانتظار. كان العجوز مغمضاً عينيه، وكان يبتسم بين الحين والآخر، ويحرك أحياناً يديه ووجهه كأنه يحاول أن يدفع شيئاً ما عن نفسه.

لم يعد الشاب يطيق الصبر، فسأل العجوز: "ما الذي في هذه الغرفة البشعة يثير تبسمك؟" رد العجوز: "إنني أحكي حكايات لنفسي، وبعض هذه الحكايات يضحكني."

سأل الشاب: "وما الذي تحاول أن تبقيه بعيداً بتحريك يديك ووجهك؟"

أخذ العجوز في الضحك، وقال: "إنها تلك الحكايات التي سبق أن سمعتها مراراً وتكراراً."

قال الشاب: "أتريد أن تقول إنك تواسي نفسك بتلك الحكايات؟"

رد العجوز: "يا بني، لسوف تفهم ذات يوم أن الحياة كلها ليست سوى مواساة الذات بالحكايات."

بالتأكيد، الحياة كما نعرفها ليست سوى حكاية. وأن نواسي النفس بالحكايات هو ما هي عليه حياتنا. ما نفهمه كحياة، ليست حياة، بل هي حلم. حين نستيقظ نتبين أن أيدينا فارغة وما كان، لم يكن موجوداً فعلاً، إنه فقط بدا أنه كان هناك.

لكن اليقظة من هذه الحياة -الحلم- إلى الحياة الحقة، هي ممكنة حتماً. من الممكن أن نتخلى عن النوم، النائم يمكنه أن يستيقظ، ففي إمكانية النوم ذاتها إمكانية اليقظة أيضاً.

الأنا

حضرت اليوم إحدى الندوات. كنت حاضراً غير أن حضوري لم يكن حضوراً، فأنا لم أكن مشاركاً، بل كنت مستمعاً فقط. ما سمعته هناك كان عادياً، أما ما رأيته، فقد كان بكل تأكيد غير عادي.

كان النقاش يحتدم حول كل فكرة. وقد سمعت كل جزء في النقاش، لكن ما تمخض عنه كان شيئاً آخر. رأيت أن النقاش كان حول الـ"أنا"، لا عن الأفكار والقضايا. ما من أحد كان مهتما بالبرهنة على أي شيء سوى على "أنا"ه.

جذر النقاش الأساسي كان في الـ"أنا". لا يهم بعد ذلك إن كان محور النقاش قد ظهر على السطح أم لا، فهو بصورة غير مباشرة يدور حول الـ"أنا" وفيها.

الجذور دائماً غير مباشرة، إنها مخفية. ما هو ظاهر ليس الجذر. ما هو ظاهر-كالزهور والأوراق- هو ثانوي. وإذا ما توقف الإنسان عند الظاهر، فما من حل، لأن المشكلة ذاتها ليست هناك. الحل يكون في موضع المشكلة. المناقشات، إذن، لم تصل إلى نتيجة. والسبب؟ إننا لا نهتم بإلقاء نظرة على مكان الجذور.

كذلك يمكن ملاحظة أنه حيثما يكون نقاش، فما من أحد في الواقع يتحدث إلى الآخر، بل كل واحد يتحدث إلى نفسه. نعم، قد يبدو أن ثمة حديث يدور. لكن، حيثما تكون الـ"أنا"، يكون جداراً يجعل من الصعب الوصول إلى الآخر. من المستحيل أن تقيم حواراً يحمل "أنا"ك معك.

معظم الناس في العالم أجمع يقضون حياتهم هكذا يتحاورون مع أنفسهم.

حدث أن قرأت ذات مرة عن حادثة في مركز للمجانين، تحاور فيها اثنان من المجانين، وكان طبيبهما مندهشاً أن لاحظ أنهما بالتأكيد كانا يتحاوران -ففي حين كان أحدهما يتكلم، كان الآخر يصمت مع أنه لم يكن هنالك أي رابط بين ما يقولانه. فسألهما: "حين يثرثر أحدكما بما يقوله، كيف أن الآخر يبقى صامتاً؟" فقالا: "إننا نعرف قواعد الحديث: حين يتحدث واحد، فعلى الآخر أن يصمت -بناءً على قواعد الحديث."

هذه العبارة بالغة الصحة إنها صحيحة ليس على المجانين فقط، بل على كل إنسان. إننا نلتزم بقواعد الحوار، ومع ذلك فإن كل واحد يتحدث إلى نفسه.

من دون إسقاط الـ"أنا"، لا سبيل إلى التواصل مع الآخر. والـ"أنا" تختفي فقط في الحب، ولذا فالحوار يحدث في الحب فقط. وما عدا ذلك، فكل شيء هو جدل، والجدل جنون، إذ يقول فيه كل فرد ما يريد لنفسه هو.

ولما كنت أغادر تلك الندوة، قال لي أحدهم: "أنت لم تقل شيئاً، يا سيدي." فقلت: "وما من أحد قد قال شيئاً هناك."

الكتاب بذور الحكمة

الناشر دار مدارك

المؤلف أوشو

المترجم عبدالوهاب المقالح

التصنيف تنمية

الصفحات 200