مع بداية إعلان الدول الأربع المقاطعة التامة لدولة قطر، كتبتُ عدة مقالات قلت في أحدها: إن السعودية نجحت سياسياً ولم تنجح إعلامياً، وسقطت قطر سياسياً ونجحت إعلاميا، وبعد مرور عامين على هذا الحدث، أستطيع أن أقول إن تلك المعادلة تغيرت إلى الشكل التالي: استمرت السعودية في نجاحها السياسي، وتقدمت إعلاميا مقارنةً بما تستطيع فعله، أما قطر فازداد فشلها السياسي، وتأخرت إعلامياً بشكل كبير جداً.

ويظهر نجاح السعودية السياسي في مقدار ما حققته من إقناع دول العالم بسلامة موقفها قانونياً وتبريره سياسياً، في حين بذلت قطر الأموال للعمل على استمالة العالم لكنها لم تنجح، كبذلها مائة مليون دولار على شكل استثمارات داخل الولايات المتحدة، وتوقيعها عقود استيراد أسلحة جعلتها الدولة الثالثة عالمياً في استيراد الأسلحة، مع علم الجميع بأنها ليست في حاجة من أجل حفظ أمنها لكل هذه الصفقات التي تتجاوز بكثير حجم جيشها ومساحتها، كما أنها تملك التزاماً أمنياً من الولايات المتحدة بمقتضى منحها للعُدَيد والسيلية كقواعد أميركية، وكل ما استطاعت الحصول عليه مقابل ذلك السخاء هو الصمت الدولي عن علاقاتها المريبة بالمنظمات الإرهابية كالقاعدة وداعش، فيما لم تستطع الحصول على ما تريد وهو حشد العالم في صفها، وقد أحسنت التعبير عن فشلها في استقطاب العالم بانسحابها من مؤتمر القمة الإسلامي الذي عُقِد في رمضان الماضي، وتراجعها عن تأييد البيانين العربي والخليجي الصادرين من القمتين العربية والخليجية.

كما استطاعت المقاطعة أن تُزيل النقاب عمَّا كانت الحكومة القطرية تُسدل عليه الأقنعة من أعمال ضد المملكة، فبمجرد طرد قطر من دول التحالف العربي لمساندة الشرعية اليمنية اندحرت القاعدة في اليمن، حيث ظهر من اندحارها السريع انقطاع العِرق القطري الذي كانت تتغذى منه تحت غطاء المشاركة في التحالف، ولنا كمتابعين أن نقرن بين المقاطعة الرباعية لقطر وانقطاع أعمال القاعدة وداعش داخل الأراضي السعودية، والاندحار التام للخلايا الإيرانية في المنطقة الشرقية، وأيضا انكشاف الخلايا ذات المزاعم الحقوقية أو المزاعم النسوية التي كانت تستهدف استقرار النسيج الاجتماعي للشعب السعودي.

وفي المقابل كشفت المقاطعة عن حقيقة العلاقات الحميمة بين الحكومة القطرية وحكومة الملالي، فاتضح جلياً أنها لم تكن علاقاتٍ حديثة انبعثت على إثر المقاطعة، بل كانت علاقة راسخة في التعاون ليس التجاري وحسب كما هو شأن دول أخرى كان لها علاقات تجارية بإيران، بل دخلت منذ عام 1415 كذراع في التآمر الأميركي البريطاني الصهيوني الإيراني ضد السعودية، هذا التآمر الذي كان يُحاك منذ عهد رونالد ريجان ضد المملكة، واستطاعت القيادات السعودية المتعاقبة مدافعته ودرء شره عن البلاد بشكل مثير للإعجاب، لكنها بسبب الميول الأميركية والروسية والصينية والأوروبية لتعزيز مكانة إيران في المنطقة لم تستطع العمل على اجتثاث النظام الإيراني وبتر أذرعته، واكتفت بالتركيز على جهودها في مدافعة النظام الإيراني ومعه مشروع تقسيم المنطقة والفوضى الخلاقة، لكنها ابتداءً من عام 1438 وجدت أن هناك تغييراً في البيئة السياسية الدولية يمكن استثماره للعمل في اتجاه جديد يضاف إلى مشروع المدافعة، وهو العمل على اجتثاث النظام الإيراني وبتر أذرعته، وكان من ضمن هذا الاتجاه مواجهة الحوثي ونُصْرة الشرعية في اليمن ثم مقاطعة قطر ثم إنشاء التحالف العربي والتحالف الإسلامي، وأيضا دعم التغيير في السياسة الأميركية تجاه إيران، فالمقاطعة الرباعية لقطر لم تكن إجراءً منعزلاً عن مشروع كامل تجاه إيران بل هي جزء من حزمة أعمال تم القيام ببعضها ولا زلنا في الطريق نحو إجراءات أخرى، ومع ذلك فخطوات المقاطعة توقفت عند حد معين بعد الشهرين الأولين ولم تتقدم، مع أن المُعلن منذ اليوم الأول للمقاطعة أن هناك خطوات أُخر يُمكن لدول المقاطعة القيام بها، ولا نعلم حتى الآن سر التوقف عند حد معين، والذي أظنه أن أي خطوات أخرى سوف تتجاوز الإضرار بالحكومة القطرية إلى الإضرار بالشعب القطري وهذا ما لا يُمكن للقيادة السعودية الرضا به.

ومعظم النجاحات التي تحققت في إظهار الموقف السعودي لم يقم بها الإعلام سواءً أكان رسمياً أم خاصاً، بل قام بها السياسيون كوزير الدولة السعودي عادل الجبير، أو الإعلام الاجتماعي عبر كثير من المغردين ورواد الفيس بوك والتلجرام واليوتيوب، ومن هؤلاء من ليس سعودياً ولكنه انتمى للموقف السعودي نتيجة تفكير مستقل بعيد عن الحزبية.

كما أن الإعلام القطري الذي كان ناجحاً تراجع بشكل كبير هو الآخر، وهذا التراجع وإن كان في صالح السعودية، بسبب تناقض المواقف القطرية وانكشافها، ففي حين ترفع إعلامياً راية القضية الفلسطينية تتسارع خطواتها في التطبيع معهم لدرجة وصلت التربية والتعليم، وفي حين يتباكى إعلامها على الدماء في رابعة تقف إلى جانب إيران التي تقتل مئات الآلاف في العراق والشام والأحواز.

وفي رأيي، أن الحملة التي تواجهها السعودية في العالم العربي ليست بتأثير من الإعلام القطري وإن كان يستثمرها ويتكاتف معها، لكنها حملة من جهات مختلفة ودول مختلفة البواعث، فمنها بواعث حزبية ومنها بواعث سياسية ومنها بواعث مذهبية، وأمر تفتيتها سهل لو كان الإعلام السعودي قد اختار الإستراتيجية الصحيحة والأدوات الجيدة لمواجهتها.

أعود للقول: إن الحكومة القطرية ليست خصماً للمملكة العربية السعودية، بل السعودية في خصومة مع مشروع دولي لتقسيمها تكلمتُ عنه قبل عامين، وإيران وقطر ومن تنضوي تحتهما من المنظمات عبارة عن أحجار نرد بيد اللاعبين الكبار في هذا المشروع، والسعودية تقاطع قطر وإيران لكنها سياسياً واقتصادياً تقف في مواجهة اللاعبين الكبار، وتقذف بأحجار النرد التي بيدها كما يقذف أولئك الكبار بأحجارهم ورقعة اللعب خطيرة جداً، وليس من المؤكد أن تأتي أرقام النرد بما يريده اللاعب دائما، لذلك نجد اللاعبين على رقعة السياسة لا يعتبرون التقدم والتراجع في اللعب نهايةَ مطافهم، وإنما نهايةُ مطافهم هو ثوابتهم التي يتكئون عليها كلما خسروا أو تراجعوا في إحدى جولات اللعب كي يجبروا اللاعبين الآخرين على إعادة الكَرَّة وعدم الاكتفاء بما انتهت إليه اللعبة.

الثابت بالنسبة للسعودية هو المواطن السعودي، فكل المناورات السياسية والاقتصادية والإعلامية مهما اضطرت فيها لتقديم شيء من التنازل فإن ذلك لديها يكون من أجل حماية هذا الثابت ومتطلباته، وألا يكون التنازل أصلاً مقصوداً لذاته بل مقصود لإفضائه إلى حفظ هذا الثابت وحفظ مَطالِبِه، وألا يصل التنازل بالعودة على هذا الثابت ومَطَالِبِه بأي نوع من النقصان.

هل نتائج المقاطعة حتى الآن تلبي مطامح الدول الأربع وعلى رأسها المملكة العربية السعودية؟

الجواب: لا؛ لأن الطموح ليس هو النجاح السياسي أو الإعلامي، لكنه عودة قطر إلى صفها الخليجي، والابتعاد عن صف التآمر على الجيران وعلى الأمة، وهذا للأسف ما لم يحدث، وأثبتت القمم الثلاث وموقف قطر منها وانصياعها للعدو الإيراني في مواجهة الأمة الإسلامية أنها ما زالت بعيدة جداً عنا، لذلك يبقى خيار المقاطعة هو الوحيد حتى الآن.