اللغة هي المدرسة الأولى التي يتعلم فيها الإنسان؛ لأن لغته هي عماد هويته وإنسانيته، يتعلم بها المنطق وحسن القصد ودقة التعبير ووضوح التفكير والعلاقة بين الكلمات والواقع، ويستوعب حاضره وماضيه معًا، فالإنسان لا يعبر باللغة فقط، ولكنه يفكر بها ويحلم بها ويصوغ بمفرداتها كل رؤاه ومشروعاته، كل آماله وصبواته، فلا إدراك خارج اللغة، ولا وعي بدونها. هذا ما برهنه علماء الدراسات اللغوية الحديثة. وفي مقولة لـ«سارتر» إن «اكتشاف الشيء وتسميته يعني تحويله إلى مفردة في حصيلة الإنسان اللغوية». فاللغة رديف حصيلته المعرفية، وهي ليست أداة التعامل مع العالم، ولكنها وسيلة الوعي به، وهي المادة التي نصوغ بها تصورنا له، وهي لذلك أهم نظم الاتصال الإنسانية، من هنا كانت خطورة قضية اللغة كمفردة من أهم مفردات الهوية القومية، وكان من الضروري أن يتجاوز الاهتمام بها نطاق اللغويين ومدرسي الأدب، لتصبح قضية ثقافية وحضارية ووطنية شاملة يدير حولها المجتمع العربي كله حوارا عميقا مكثفا يطرح فيه تصوراته حول حالها وسبل إصلاحها، فلا سبيل لإصلاح مجتمعاتنا إلا بإصلاح لغتها.

فمن هانت عليه لغته وهنت معها قيمته واعتل شعوره، فأهم إنجازات الثقافة العربية المعاصرة، أن الأفكار التي ترسخت أهميتها وتأكدت قيمتها كانت نتاج أهمية اللغة العربية وجعلها قوة دافعة في الحاضر تساهم بفاعلية في التغلب على سلبيات الوضع الراهن ومحاصرة سلبياته في أضيق الحدود.

ومتى يتعود المواطن على التفكير المنطقي العلمي السليم، وكما أسلفت من هانت عليه لغته وهنت معها قيمته واعتل شعوره بهويته، وتفجرت داخله التناقضات والصراعات والنزعات غير المتوازنة التي نجد أن الإرهاب أحد تجلياتها المتعددة، وهذا ما يجعلني أُطالب المجتمعات العربية بإصلاح وضعها اللغوي؛ لأنه يحتاج إلى سياسة شاملة تستقطب اهتمام أغلب أفراده بكل طاقاتهم، للنهوض بواقعهم والتغلب على كل ما فيه من سلبيات. ولا يعني رد الاعتبار للغة القومية الانغلاق عليها أو تجاهل العناية باللغات الأخرى، إنما يعني الإصلاح اللغوي الشامل الذي يهتم بدراسة اللغة العربية أولاً باعتبارها مستودع الخبرة المعرفية لكافة أفراد الأمة. ومن هذا المنطلق كانت دعوتي للإصلاح والاهتمام باللغة كمفردة في غاية الأهمية للهوية الإنسانية والقومية.