نتفاعل سنوياً مع أبنائنا وبناتنا من مخرجات الثانوية العامة، ونشاركهم القلق والتوتر في مصيرهم المجهول والمرتبط بإمكانية قبولهم في الجامعات، ونعيش آمالهم وتطلعاتهم التي تملأ قلوبهم قبل عقولهم، حول ما يطمحون إليه من مستقبل يتمنون تحقيقه وطموحات يحلمون بأن يلمسوها حقيقة يعيشونها؛ لتأمين حياتهم العلمية بدايةً، والمهنية والاجتماعية تالياً، فعلى ذلك تعتمد إمكانية أهليتهم لبناء حياة أسرية، ومقومات تمكنهم من المساهمة في مسيرة البناء والعطاء الوطني.

وعلى الرغم من تكرار المأساة السنوية للمحنة المجتمعية، في تعثر قبول معظم مخرجات الثانوية العامة في الجامعات الحكومية، لمحدودية المقاعد فيها رغم تعدد الجامعات التي انتشرت في كافة مناطق المملكة، والذي أدى للتشدد في المفاضلة لنسب القبول في الجامعات، لتكون للنخبة أو الصفوة من مخرجات الثانوية ذوي النسب الموزونة أو المركبة العالية، ورغم وجود كليات المجتمع والكليات التقنية والفنية المختلفة التي يمكنها استيعاب جزء من تلك المخرجات من الذين تنخفض نسبهم عن المطلوب في الجامعات الحكومية، إلا أنه ما يزال هناك كثير من أبنائنا لم يجدوا لهم مقعداً في تلك الجامعات أو الكليات المتاحة لاستكمال تعليمهم بالتخصص في أحد المسارات العلمية المتوفرة؛ والسؤال الهام الذي لا بد وأن نتداوله ونفكر فيه هو؛ ما مصير أبنائنا الذين لم تتح لهم فرصة تعليمية أخرى؟! وما هو البديل؟!.

وفي محاولة لحصر حجم تقريبي لتلك الفئة من شبابنا الذين تتبدد آمالهم وطموحاتهم مع بداية كل إجازة صيفية، بعدم القبول في الجامعات، نجد أن الفئة العمرية من 15- 19 سنة يصل عددها إلى 1.768.627 حسب تقديرات السكان للمواطنين في عام 2018، وبما يمثل نحو 9 % من نسبة السكان المواطنين، وإذا ما أضفنا إليهم الفئة العمرية من 19 - 24 سنة والبالغ عددهم 2.052.314 حسب تقديرات نفس العام، فإن نسبة هؤلاء تصل إلى نحو 10% من جملة السكان المواطنين، وذلك باعتبار أن منهم عددا كبيرا من الذين لم يتم قبولهم في الأعوام السابقة، وتشكل كلتا الفئتين 19% من جملة سكان المملكة من المواطنين!

وبالإشارة إلى ما نُشر إعلامياً، منسوباً لوزارة التعليم، إنه من سيتم قبولهم في الجامعات الحكومية لهذا العام هو نحو 311 ألف طالب وطالبة في مختلف الجامعات! فالاستفسار المطروح؛ ما هي الخطط البديلة والبرامج التي طرحتها الوزارة لاستدراك هذا الكم الكبير من الفاقد في التعليم للمواطنين؟! ما هو التطوير الهام الذي تم رصده ومتابعة تنفيذه عاجلاً في خطط القبول في الجامعات بناء على هذا الهدر المهول لطاقات شبابنا؟! وهل هناك استيعاب فعلي واستشعار وطني وإنساني لحجم المسؤولية التي تتحملها الوزارة في هذا الشأن؟! وهل هناك استشعار للمسؤولية الاجتماعية والأمنية حول تبعات ذلك؟!

لا ننكر أن التعليم الجامعي الصحيح والجاد يحتاج لنخبة جيدة من الطلاب المتميزين، وأولئك تتم مفاضلتهم بناء على النسب الموزونة التي حصلوا عليها، ولكن التساؤل الذي كثيراً ما يتردد، هل البرنامج التعليمي المتاح في مدارس التعليم العام بجميع مكوناته وأدواته التربوية والتعليمية؛ يمكنه أن يُخرج طلاب/ات، على قدر من الوعي والإتقان لما تلقوه من مواد علمية وأساليب تفكير وتحليل مطلوبة في تلك الاختبارات المكونة لتلك النسبة المركبة؟! وهل هناك توجه فعلي لرفع نسب القبول في الجامعات بحيث يتم الفرز الحقيقي، بعد السنة التحضيرية كما يحدث في كثير من جامعات العالم؟، وهل لدينا كليات مجتمع وتقنية وغيرها بالمستوى المطلوب تأهيله لسوق العمل؟، وما هو مصير مخرجات كليات المجتمع الذين يمثلون البنية التحتية في مواردنا البشرية لسوق العمل لدينا؟، هل هناك نظام عمل يخدم توظيفهم وتدريبهم؟! وهل هناك تنسيق وتطوير من وزارة التعليم لمستوى مخرجات تلك الكليات؟ وهل هناك دراسات حول مدى جودة تأهيلهم وتخصصاتهم لحاجة سوق العمل؟ هل هناك تصنيف مهني ووظيفي لائق بهم كمواطنين؟، كثير من التساؤلات تُطرح في هذا الشأن الحساس والمؤثر على كثير من التحديات الوطنية التي نعيشها، ولا نجد لها إجابة مقنعة أو إجراء يُبشر بأن هناك ثمة التفاتة لهؤلاء!

من جهة أخرى فإن تخصيص برامج الابتعاث لمجالات معينة محدودة جداً، وإغلاق برنامج الابتعاث الداخلي للجامعات الخاصة؛ قد زاد من الطين بلة، لأن معظم مخرجات الثانوية بالطبع لا يستطيعون تحمل تكاليف الدراسة في الجامعات الخاصة، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن متطلبات الالتحاق ببعض الجامعات الخاصة، تحتاج كذلك لتأهيل في اللغة بما يحتاج للدعم والدراسة والتكاليف المضافة، أما برامج البنوك والجهات المقرضة التي يمكنها تمويل الطالب للدراسة بقروض طويلة الأجل وبنسبة فوائد لا تذكر، والتي يبدأ استرجاعها بعد التوظيف كما يحدث في كثير من دول العالم، فهي ليست متاحة أو موجودة عندنا، وتلك من البرامج المهمة التي تُنفذ كجزء من المسؤولية الاجتماعية للبنوك والمصارف الوطنية، للمساهمة في التنمية البشرية والمشاركة في بناء الصرح الوطني في كافة مجالاته ومساراته.

وعليه فإن بعض المعايير العلمية المطلوب تنفيذها واعتمادها في عملية القبول في الجامعات الحكومية، لا يمكن الاتكاء عليها أو اعتبارها مرتكزاً علمياً أو تجريبياً نستند إليه، في تصنيف عملية القبول للنخبة لدينا أسوة بالعالم المتقدم من الدول المتميزة علمياً، والتي لم تتقيد بتلك المتطلبات جُزافاً، ولم تقفز بين مراحلها التعليمية لتفقد بعض المراحل والأساليب التربوية المطلوبة، لاستكمال الحلقات التعليمية والبناء التربوي الفكري للطالب؛ وعليه فكيف لنا أن نحاسب أبناءنا على مستوى تعليمي لم نُعدهم له؟ أليس هناك جهات رسمية مسؤولة عن جودة التعليم وتقويمه وعن مستوى مخرجاته كذلك؟!، فكيف نحرمهم من استكمال تعليمهم، وهم أمل المستقبل ورواد نهضته؟ أليس من مسؤوليتنا تيسير وإتاحة مختلف الفرص التعليمية والتأهيلية لهم؟ وختامًا، صدق القائل: العلم يبني بيوتاً لا عماد لها.. والجهل يهدم بيت العز والكرم.