تتردد في كل وسائل الإعلام على مستوى العالم، بتعدد واختلاف لغاته وتوجهاته، عبارة «صرَّح مصدر مسؤول» دون ذكر اسمه، ونتقبل التصريح دون تشكيك لأنه صدر من مصدر مسؤول.

هذا التعامل العفوي مع كلمة مسؤول، يعكس أهمية ومضمون هذه الكلمة، ومن الطبيعي القول إنها تعكس المسؤولية، وهي مهمة ترتبط بالأمانة، والأمانة معيار الأسوياء من الناس.

وتتعدد مستويات المسؤولية حسب مستوى التكليف، لكن ذلك لا يعني -بالضرورة- التراخي في تحمل المسؤولية، ذلك أن التكليف الشرعي ينص على «كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته».

إذًا، نحن نتحدث هنا عن درجة التكليف وليس عن التكليف ذاته، فهو أمر محسوم بحكم حكمة وجود هذا الإنسان على هذه الأرض، وما كُلِّف به من عمل، فالمسؤولية تكليف وليس تشريفا.

ولما كانت كذلك، فإن المسؤول سيُسأل عن عمله، وذلك هو معيار التكليف وضابط الأداء في الأعمال، ويستوي في ذلك عمل الإنسان لنفسه ومن أجلها كمخلوق مكلّف، أو عمله بموجب تكليف المسؤول عنه أو ولي الأمر.

هذا المفهوم المبدئي للمسؤولية هو الذي يمكنه أن يؤطر العمل العام بشكل أساسي، وهو ما يسهم، بشكل مباشر وغير مباشر، في خلق منظومة إدارية متكاملة قادرة على أن تكوِّن مزيجا من الكفاءات والقدرات لبناء مجتمع ودولة، ولن يكون ذلك ممكنا إن لم تكن هناك ضوابط للمسؤول والمسؤولية، يحتكم إليها الناس لتسيير أمور دنياهم، بما يحقق كفاءة العمل وعدالة الحقوق، وهي مبادئ أساسية أسهم علم الإدارة، قديما وحديثا، في تأطيرها وتنظيمها بحيث يكون الأداء والواقع متسقين مع المهام والمسؤوليات المناطة بالعاملين، باختلاف درجاتهم على السلم الوظيفي، فلكل درجة مسؤولياتها، وتتعاظم هذه المسؤولية -بالضرورة- بالارتفاع في السلم الوظيفي، ولذلك يكون رأس الهرم أكثر مسؤولية، ويكون هو المصدر المسؤول.

وكي تستقيم الأمور، فإن هذا الذي يتسنّم قمة الهرم، عليه أن يدرك أن عليه أن يقيم العدل، أي يطبِّق النظام بالمفهوم القانوني الحديث، على نفسه، تماما كما هو مسؤول أن يُقيمه على المسؤول عنهم، وهذه بكل بساطة أبجديات إدارية، وإن كانت ذات مفهوم عام يرتبط بالقانون، ولها تبعات اجتماعية واقتصادية.

هذا المفهوم للمسؤولية ليس جديدا على الأدبيات العلمية، بل كان أساسيا لدى كثير من الكتابات القديمة في العصور الأولى لبزوغ الفكر والتنوير، حتى في عالمنا العربي، إذ تعرض له ابن خلدون في مقدمته الشهيرة بكثير من الإسهاب والتفصيل، وأورد أمثلة رائعة بدأت في صدر الإسلام، وشكّلت جزءا مهما من النهج الإسلامي في العلاقة بين المسؤول وعامة الناس، وهي علاقة منظمة تحدد المسؤولية بشكل واضح، الأمر الذي تسهل معه المساءلة التي هي قوام المسؤولية المنضبطة.

يبقى السؤال: مَن المسؤول حقا؟ وسيظل الجواب دائما: المسؤول هو ذلك الضمير الذي يكمن في داخل كل منا، ولكنه إن نظر إلى الخارج، فسيجد أمامه سيفا مشرعا اسمه العدل.