تلعب الصدفة أدوارا لافتة في بعض الأحيان، فقد تزامن تحفظ الكرملين، أمس، عن إعلان المعلومات المفصلة المتعلقة بالحريق الذي أدى إلى مقتل 14 بحاراً في غواصة للأبحاث تابعة للجيش الروسي في شمال البلاد، مشيراً إلى أنها تعتبر من "أسرار الدولة"، مع عرض مسلسل تشيرنوبل الذي يتناول أحداثا درامية لكارثة المفاعل النووي الذي يحمل اسم "تشيرنوبل".

ولقي 14 بحاراً حتفهم، بينهم 7 ضباط من الصف الأول، الاثنين الماضي، جراء تسممهم بالدخان المنبعث من حريق غامض شب في غواصة روسية معدة لأبحاث البيئة البحرية والمياه العميقة، وفق الرواية الرسمية، ولم يقدم الجيش الروسي تفاصيل عن الحادث، لكن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أشار إلى أن الغواصة التي تعرضت للمأساة "غير عادية".

تحفيز

حفز مسلسل (تشيرنوبيل-Chernobyl) الرسائل والتعليقات الصعبة على الظهور في روسيا، وبصوت عالٍ وواضح حقيقة أن قناة تلفزيونية أميركية، وليست روسية، قررت أن تحكي عن الأبطال السوفييت يعد مصدر إحراج للكرملين وإعلامه وللروس أنفسهم.

وأصبح هذا المسلسل نوعا من الإحساس الوطني في روسيا، حيث أطلقت وسائل الإعلام الموالية للكرملين حملة ضده، بينما دافع عنه المشاهد العادي المتلهف للمعلومة، لكون الفيلم بجودته ونزاهته أقرب إلى التاريخ الممكن تلقفه. وربما يجب على الروس أخيرا الخروج من تحت كومة المعلومات المخفية للتفكير في "من نحن حقا؟".

يقول أحد المدونين "ليس لنا قصة مثلاً عن تاريخ الثورة الروسية، التي حُكيت لنا عن طريق الكاتب الغربي توم ستوبارد. نحن لا نستطيع كتابة ذلك، فثمة ما يعيقنا. ربما لكوننا لا نستطيع أن ننظر إلى تاريخنا من الداخل، وبحاجة إلى رؤية خارجية".

نسخة وحيدة

يذكر الكاتب أندريه كوليسنيكوف في "غازيتا" أن روسيا كانت قد قدمت نسخة وحيدة من مسلسل تشيرنوبل، عبر مسرحيات اسمها "التابوت"، كان يقوم بإعدادها الشاهد والصحافي من صحيفة (pravda) فلاديمير جوباريف الذي شهد الحادثة، ونظم مسرحيات عنها في أكثر من 100 مسارح حول العالم، ثم كان هناك مسلسل روسي عام 2014 تحت هذا المسمى "تشيرنوبل"، لكنها كانت قصة عن مراهقين زاروا الموقع في الوقت الحاضر، ولم يعط المسلسل أي فكرة عن الكارثة، وكل هذا لا يكفي.

إعادة تسويق الحادثة

السبب الثاني الذي صعد بالسجال الشعبي في روسيا حول سلسلة تشيرنوبل وهي من إنتاج ين شبكة إتش بي أو الأميركية وشبكة سكاي البريطانية، كان يتباحث عن العلة التي امتنعت أي من الدول السوفييتية السابقة بموجبها من إعادة تسويق الحادثة بنفسها. فقد كان من المنطقي بالنسبة لروسيا، وهي بقيادتها النووية الحالية، ومشكلات عودة سباق التسلح مع الولايات المتحدة، وأصابع الاتهام بالهجوم الكيميائي في سورية، وبيعها أنظمتها الدفاعية لبعض الدول، وكافة مشكلاتها المتعلقة بالسلاح، أن تظهر للعالم عبر إنتاج نسختها الخاصة من المسلسل بأنها تعلمت الدروس؛ وبأنها أكثر خبرة وأوفر معلومة، تعي مسؤولياتها ناحية العالم، وتمنحه تصوراً عن أهميتها في مجال المفاعلات، أو خطورة الانسحاب من اتفاقية الصواريخ مثلا، أو تهديدات بعض الدول بامتلاك أسلحة نووية، أو بغيرها مما يمكنها توظيفه في كسب إعلامي خاص بها.

وكان من المنطقي بالنسبة لأوكرانيا أيضًا إنتاجه؛ البلد الأكثر تضررا والذي ازدهرت فيه تجارة غير مشروعة في الخردة المعدنية التي من المحتمل أن تكون ملوثة بالإشعاعات وسط الأنقاض والقرى المهجورة. أو بيلاروسيا التي وقعت ضحية شديدة لتداعيات تشيرنوبل. ولكن على العكس من ذلك، فقد نشرت صحيفة "برافدا اليومية" المؤيدة للكرملين عمودًا يشير إلى أن هذه السلسلة هي محاولة لتقويض الريادة الروسية في صادرات المفاعل النووي، وهو أحد المجالات القليلة التي تتفوق فيها روسيا على الولايات المتحدة وتتنافس بنشاط على الأسواق الأوروبية والآسيوية.

ومع ذلك، فقد عادت إلى الواجهة السلسة الوثائقية الأوكرانية "تشيرنوبيل: لونان من الزمن". التي نشرت سنة 1986. والتي وصفها الكاتب والمنتج لسلسلة كريج مازن بأنها "الكتاب المقدس" التي اقتبس منها سلسلته.

كون المسلسل استند على بعض ذلك الوثائقي الذي لم يسمع به الروس مع الأسف لأنه عُرض على التلفزيون السوفييتي قديماً ولم يجتذب انتباه أحد حتى اليوم.

تعليقات المشاهدين الروس

من الواضح لمعظم المشاهدين الروس أن إنتاج HBO ليس نوعًا من جهد الدعاية الأميركية المضادة لهم، بل امتلأ بالرسائل العالمية والأخلاقية، حول قيود الحكومة والإدارة، وما السيكولوجية البشرية عندما تواجه تأثيرات غير متوقعة للتكنولوجيا.

في الواقع لا يتم تصوير الروس كأشرار في "تشيرنوبل". وحتى تصوير ستيلان سكارسجارد لشيربينا -الذي أمر بالإجلاء الفوري لمدينة بريبيات رغم أن كثيرين جادلوا ضدها- فقد كان المسلسل بشكل عام متعاطف معه.

مما يقلق بقية المجتمع الروسي الذي تابع السلسلة هو أن العالم بأسره سيعرف عن قصة تشيرنوبل وأبطالها من هذه النسخة الأميركية، ففقدان جزء الأصالة وحيازة الحق في الحديث عن الأبطال السوفييت ليس فقط على المشاهدين الغربيين، ولكن أيضا على الجيل الأصغر سناً من المشاهدين الروس. وبأن العالم عادة ما يتعلم المعالم التاريخية الروسية من المسلسلات باللغة الإنجليزية"، كما يقول إيليا محرر "كومسمولسكايا برافدا".

تقدير الأبطال

لو فتشنا جيداً سنرى أن الموقع الرئيس للكرملين لا يحمل حتى ذكريات تقديرية لأولئك الأبطال الذين أنقذوا العالم من إحدى أخطر الكوارث النووية، بل وتعداد المرات التي ذكر فيها الرئيس فلاديمير بوتين الناجين من تشيرنوبل والذين ما زال عدد منهم على قيد الحياة ويعانون من مجموعة مشاكل صحية جاء محدوداً، تحدث بوتين عنهم عام 2016، في الذكرى الثلاثين للكارثة، ومرة ​​أخرى في عام 2011، في الذكرى الـ25. رغم كونهم أنقذوا العالم بأسره، تماما كما تغالي روسيا في تقدير الأبطال الروس الذين أنقذوا العالم من تفشي النازية، رغم كون جهود التنظيف بعد حادثة تشيرنوبل كانت مهمة بقدر أهمية فوز الحلفاء في الحرب العالمية الثانية. إنما هذه السقطات في الواقع لا يمكن مقارنتها بالفشل السوفييتي الحقيقي في تقديم تقرير علني عن الكارثة وقت وقوعها.

وعندما حاول الأمين العام للجنة المركزية للحزب الشيوعي، ميخائيل جورباتشوف، فهم ما حدث في تشيرنوبل عقب وقوع الكارثة، تلقى ردا من أناتولي ألكساندروف بأنه "ليس بالأمر الجلل، ولتجنب التعرض للإشعاع فأنت بحاجة إلى مشروب جيد ووجبة خفيفة ونوم". وبطبيعة الحال، فإن عمليات التستر والدفاع تلك تعز جرائم بشعة.

وما يحدث الآن في روسيا يكمن في صعوبة تصوير واقع مكاشفة الاتحاد السوفييتي المتأخرة للناس عقب 18 يوماً بتلك الحادثة، بل وحتى بعد مضي تلك الأيام فقد تحدث جورباتشوف للأمة عن انتقاده للتقارير الغربية التي تلقي باللوم على الاتحاد السوفييتي، بدلاً من الحديث عن الكارثة وأبعادها والكفاح والتضحية بالنفس وتحية أبطالها وما يلزم الناس فعله. لقد كانت التقارير موجودة على أي حال، لكنها كانت لتكون أكثر دقة لو لم يحاول الاتحاد السوفييتي إخفاء حجم الضرر.

حتى السياسيون الروس انضموا إلى تلك النقاشات حول المسلسل، مثل جريجوري يافلينسكي، زعيم حزب يابلكا، يقول "إن المسلسل لا يتعلق بالكارثة فحسب، بل يتعلق بحقيقة وضع الاتحاد السوفييتي ككل، إذ لم تكن المشكلة الرئيسية بالنسبة له هي خطر الكارثة، بل أيضا الأكاذيب الرسمية الرهيبة عندما أخفت الحكومة السوفييتية حقيقة هذا الأمر".

يضيف أيضا أن "كبت حرية التعبير والإعلام المستقل قادتا، من بين أشياء أخرى، إلى تصوير الحديث عن الكارثة كخطيئة، حتى أن الناس احتفلت بعطلات مايو عام 1986 كالمعتاد في كييف ومدن أخرى داخل منطقة إشعاع تشيرنوبل دون أدنى دراية بالمخاطر". وقد علق أحد السائقين الذين كانوا يقلّون السياح إلى تلك المناطق بـ: "تباً لتاريخنا وللكرملين".

مراجعات المسلسل

في سياق مواز، كتب أناتولي فاسرمان، كاتب العمود المتطرف الموالي للسوفييت، مما قد يكون الأكثر صراحةً من بين جميع المراجعات التي تم عرضها ضد هذا المسلسل: "إن قام الأنجلو ساكسونيون بتصوير شيء ما عن الروس، فهو بالتأكيد لن يتوافق مع الحقيقة". لكنه يستدرك: "في الحقيقة، لقد مر وقت طويل منذ أن صنع الروس أفلاما تاريخية مثيرة للجدل حول روسيا، لا يبدو "تشيرنوبيل" من HBO سيئا للغاية، فلماذا كانت وسائل الإعلام الموالية للكرملين تعارضه؟ إنها حالة طبيعية من الاستياء الغيور، على طريقة: "نحن فقط من نملك الحق في الحديث عن تاريخنا وأبطالنا".

لكن صحيفة "Argumenty i Fakty" التي تحظى بشعبية بين كبار السن، اعتبرت المسلسل "كاريكاتيرا وليس حقيقة". إضافة لكون ستانيسلاف ناتانزون مذيع قناة روسيا 24 علق على هذا المسلسل ساخراً بقوله: "لقد صورتمونا بدقّة وكأنه لم يعد من أشياء مفقودة في ذلك المسلسل إلا وجود الدببة والأكورديين!". ثم دافع بضراوة عن الحكومة السوفييتية: "لم يتم رفض نشر مقال البطل المنتحر ليجاسوف، بل تم نشره بالفعل"!

لكن الحقيقة المؤسفة هي أن ليجاسوف كتب هذا المقال لـ"كومسومولسكايا برافدا" عام 1987، إنما المحررون لم يعجبهم ذلك ورفضوا نشر المقال. بل وقد رفض جورباتشوف منحه لقب شرف بطل العمل الاشتراكي على الرغم من أنه منحها للآخرين الذين عملوا مع ليجاسوف في تشيرنوبيل!! وبعد اجتماع في أكاديمية العلوم، شنق ليجاسوف نفسه. وبعد أسبوعين من وفاته، نقضت الصحيفة قرارها ونشرت مقالته عام 1988.

إنما بعد صخب هذه السلسة المحرجة للكرملين، فقد أعلنت قناة NTV الروسية، أنها ستطلق نسختها الخاصة من سلسلة "تشيرنوبل" لكن على أساس فرضية تقول إن وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية أرسلت وكيلاً إلى منطقة تشيرنوبل للقيام بأعمال تخريبية! وكمبرر للقصة، فقد استشهد مخرج الفيلم القادم، أليكسي مرادوف، بمنظري المؤامرة: "تقول إحدى النظريات أن الأميركيين قد تسللوا إلى محطة تشيرنوبل للطاقة النووية وأن العديد من المؤرخين لا ينكرون ذلك، في يوم الانفجار، كانت أجهزة مخابراتهم موجودة في المحطة بالفعل".

وبدلًا من الإشادة بالرجال والنساء الأبطال الذين ضحوا بكل شيء للتغلب على تداعيات كارثة تشيرنوبل.

هفوات وقعت بها السلسلة

- تضمين النوافذ البلاستيكية الحديثة في المباني السوفييتية.

- منطقة تشيرنوبل بعيدة جداً عن موسكو بحيث لا يمكن الوصول إليها بواسطة المروحية، وفي الواقع، فقد تم إرسال اللجنة الحكومية إلى هناك بعد وقت قصير من الكارثة النووية التي استقلت طائرة إلى كييف ثم سارت إلى تشيرنوبل بعد ذلك.

- لا يمكن لنائب رئيس الوزراء بوريس شربينا أن يتخيل تهديده بإلقاء فاليري ليجاسوف، العضو المحترم في أكاديمية العلوم السوفيتية، من على متن المروحية.

ـ قام ليجاسوف، وهو أحد الشخصيات الرئيسية في المسلسل، بالانتحار فعلاً بعد عامين من كارثة تشيرنوبل، عقب أن سجل ذكرياته أولاً، ولكنه لم يكن يعيش في شقة صغيرة مع بساط الغزلان الموضوع على الحائط، ولم تكن القطة هي رفيقته الوحيدة. لأنه مرض بعد رحلات عدة إلى محطة الطاقة النووية المنفجرة، واعتنت به زوجته وابنته.

- العمال الروس لا يشربون الفودكا أثناء العمل، وقد أغضب هذا المدير السابق لمحطات الطاقة النووية إيجور جراموتكين في موقع أورا نيوز الروسي، عندما صُوّر العمال وكأنهم يتخذون أهم القرارات الأمنية بينما هم في حالة سُكر.

- في أواخر الثمانينيات من القرن الماضي، لم يُطلب من الجنود الذين يحملون بنادق هجومية الإبقاء تحت المراقبة أثناء خطاب الوزير. وفي هذا الصدد، كان يبدو أن الجنود في المسلسل يحملون أسلحتهم بالطريقة الأميركية، تحت الذراع، وليس على النمط السوفييتي، أي حملها مقابل الصدر.

- السوفييت عام 1986 لم يكونوا ينادون بعضهم بمسمى "الرفيق"، ما عدا في اجتماعات الحزب الشيوعي الرسمية.

- لوحة إيليا ريبين لإيفان الرهيب الذي أدرك أنه قتل ابنه للتو لم تكن قد دخلت إلى الكرملين بعد.

- الأزياء في السلسلة هي من الفترة الخاطئة تماماً للسوفييت، رغم براعة المسلسل حقيقة في الاقتراب من ملامح الشخصيات الواقعية.