كان مطار طوكيو هادئا غير مزدحم على غير ما يتوقعه المرء في مكان ياباني.

تناثر في البهو الواسع أشخاص يقرؤون أو يشاهدون التلفزيون، أو يدردشون أو يتعاطون التأمل -مثلي- في أنفسهم، وفيما حولهم.

بقي على موعد المغادرة ما يقرب من 3 ساعات، حاولت أن أمضيها في ممارسة كل ما يمارسه المسافر الذي تقذفه أسفاره إلى مطار غريب بعيد، لينتظر في ترقب وضجر المغادرة إلى مطارات أخرى أشد بُعدا وغربة.

تجوّلتُ في أنحاء المطار الكبير، تسكّعت في سوق المطار الذي تتزاحم الإلكترونيات اليابانية على أرففه وفتريناته، تزاحم المئة وتسعة عشر مليون ياباني في سهول الجزر اليابانية الصغير.

زرت مقهى المطار، فلم ينجح في استبقائي أكثر من دقائق قليلة، اكتشفت خلالها رداءة الشاي الياباني، وتعرّفت على أبعاد المؤامرة اليابانية على القهوة الأميركية.

مررت على صالة الألعاب الإلكترونية، فلم يشجعني مزاجي على ممارسة طفولتي من جديد.

وأخيرا، عدت إلى مكاني القصيّ، ألقيت بحقيبة يدي، والتقطت كتابي الذي اخترت صحبته في سفرتي تلك، وحاولت أن أندس بين سطوره، على نحو يليق بأكاديمي متوحّد في غمرة هذه التثاؤبية الضجرة.

انفتح أحد المخارج ليفرّغ فوجا من القادمين، يتدافعون متلهفين على ممارسة الركض على أرض صلبة، بعد السباحة القلقة في الفضاء الرحيب.

من بين الزحام، ظهر طابور طويل منتظم من الأطفال اليابانيين، يرتدون زيّا موحّدا تتقدمه امرأة ترتدي زيّا شبيها. اتجه الطابور في انسياب ناعم نحو مجموعة من المقاعد القريبة، وضع كل طفل منهم حقيبته الصغيرة التي كان يحملها على ظهره، وأصلح هندامه، ثم جلس على كرسيّه في هدوء وصمت.

مرّت عليهم قائدتهم وقالت كلاما يابانيا، بادر بعده كل طفل إلى حقيبته ليخرج منها بطاقة بريدية ملونة، بدؤوا يكتبون فيها، وعندما انتهوا منها سلّمها كل منهم إلى زميله الذي على يساره، ابتداء من أقصى اليمين حتى تجمعت البطاقات عند زميله في أقصى اليسار، لتأخذها منه القائدة في نهاية المطاف.

لم تمض لحظات حتى بدؤوا يخرجون آلات إلكترونية صغيرة، انهمكوا في العبث بها بمتعة بدت على التفاتاتهم وهزهزات رموشهم، التي تضم في حنان عيونهم الصغيرة، وهمهماتهم اليابانية العصفورية. استغرقني المشهد الياباني، رحت أرقبه في فضول وانبهار، امتصّني من قلق الانتظار وضجره، وأثار في ذهني موجة من التساؤلات. كيف يمكن لذلك الانضباط الدقيق أن يحتوي الطفولة المنطلقة الصاخبة؟ هل الذي أراه ظاهرة يابانية بحتة، أم هي برمجة تربوية قابلة للتعميم؟، هل هذه لمحات من الشخصية اليابانية التي بهرت عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، بعد أن صدمته بنزعتها العسكرية بعد بيرل هاربر؟، هل هي بدايات المعجزة اليابانية تحبو وتترعرع من المهد حتى تستوي على عمودها عملاقة عجيبة فاعلة في المصنع والمكتب وحوض بناء السفن ومعامل بيع السفن.

تساؤلات كثيرة حملتها معي إلى الطائرة، وازدادت إلحاحا وإصرارا عندما امتدّ أمامي الفضاء الياباني المكتظ خلال النافذة. مصانع وسيارات وناطحات سحاب ومزارع وبشرٌ يدبون كدبيب النمل.

ما زالت اليابان في ذهني -وفي أذهان كثيرين- علامة استفهام كبيرة تضنّ بالإجابة عنه عيونهم الغامضة الصغيرة.

* بعض من ثقافة الفتى مهران

* 1982