إن الموت كفيل باستلال ما في النفوس من سخائم كمينة، والقضاء على ما في القلوب من حزازات دفينة، وهذا الباب المفتوح أبداً لكل داخل، المغلق وراء كل والج، يجعلنا بين غمضة الطرف وانتباهته لا نرى ممن يندرج في ظلماته إلا خيالاً بعيداً أو شبحاً هزيلاً قد عادت طبائعه الأرضية إلى الأرض، وذهب ما كان فيها سماوياً إلى السماء، فتصرمت بيننا كل الوشائح، وتقطعت كل الأواصر، اللهم إلا ذكرى تسنح أو ود يرسب، أو محبة تبقى، أو اسم يتردد بين آونة وأخرى معطراً بخير ما يذكر به الميت من حسنات ومناقب، فمن الحق على الأحياء ألا يذكروا الموتى إلا بخير أعمالهم وأسمى مزاياهم فقد فرغوا إلى أعمالهم بينهم وبين رب قاسط لا يظلمهم فتيلاً، وقضى الموت على عداوة العدو وأخذ من صداقة الصديق إلا بقدر ما يبقى منها من ذكرى طيبة وأسف لاعج.

كثيرون من الناس لا يرون هذا الرأي فتجدهم يلغون في عرض الميت كما لو كان حياً، ويتناولونه بعد مماته بما يتناولونه به في حياته، وهذا يدل على ما رسب في إنسانيتهم من حيوانية متحجرة، وما فيهم من جفاف غليظ، هؤلاء لا نريد أن نكلمهم فإن لهم لمعادا كمعاد كل مخلوق في هذا الوجود، وهناك ـ نعم هناك فقط ـ سيحاسبهم بارئهم على ما أثموا في حقوق الناس وأعراضهم وكرامتهم وظلموا به أنفسهم وما ظلمهم الله لكن كانوا أنفسهم يظلمون.

هذا العام وأنا أصطاف بالطائف - شأني كل عام - تعرفتُ على شابٍ من خيرة شبابنا المهذب، فكانت صداقة متينة عميقة، وخلصت في مدة زهيدة لا تزيد عن خمسة عشر يوماً، توعكت صحته بعدها ثم قضى نحبه في يومين اثنين أمضاهما في مستشفى الطائف، لقد كانت بنيته ضعيفة وصحته متهدمة، كان هزيل الجسم طويله معروق الأشاجع شاحب الوجه، ينم على أنه كان سوداويا مفكرا، وأعني هنا بالمفكر الذي يفكر فيما يعنيه ويتعلق به ويهتم له لقد كنت أتخيل فيه حزنا عميقا مبهما، ويرسل من عينيه نظرة سوداء أو هي أقرب إلى السواد من أي لون آخر، لست أدري ماذا كان السر في مزاجه الحزين؟ فإن لكل إنسان ثلاث شخصيات مزدوجة: شخصية يعرف بها عند العامة، وشخصية لا يعرف بها إلا عند الخاصة، وشخصية تظل منطوية في أعماق نفسه خفية على كل عين بعيدة على كل استشراف فلعله - رحمة الله عليه - كان يتوهم من شيء أو يتألم لشيء أو يظن بشيء ظنا سيئا مؤلما فإن العقل الباطن في كل شخص يسعد ويشقي ويسر ويؤلم ويخلى ويشجي ويملأ قلبه بالأمل أو يجسم له القنوط.

رحمه الله وغفر له، لقد عرفتُ فيه مثل الوداعة والأدب الجم والخلق الدمث والحاشية الرقيقة ولو ما قدره الله في سابق علمه لجرت بيني وبينه صداقة لذيذة يشتار منها الجني الحلو وتتقطع فيها الأحاديث المفيدة كما تتقطع أزهار الرياض ويستثنى منها عبق الوفاء لولاه - ولولاه وحده - لما أتيح لي أن أكتب هذه الكلمة الوجيزة فما كان يحلم حسين كتوعه - وهذا اسمه - بأني سأذكره في مقال أو أنشر عنه في جريدة سيارة، ولكنه أداء واجب لازب وسداد دين محتوم.

أعاننا الله على أداء الواجبات ورحمنا الله وإياه وشملنا جميعا بعفوه الواسع وألهم أهله فيه صبرا جميلا وسلوانا طويلا وأبقى له في الأبرار الطيبين ذكرا مجيدا.

*صوت الحجاز - ع 326 الثلاثاء 3 شعبان 1357هـ ص 1.