وهذا العنوان لم أصل به أو إليه إلا من الاتصال بالواقع، فما أكثر الفتن، تبدو صغيرة ثم تكبر. فمعظم النار من مستصغر الشرر، ويقود هذه الفتنة الذين لم يعبؤوا بما فرضه الإسلام، دم المسلم على المسلم حرام بل وتخريب للأرض المسلمة، حين يتزعم الفتنة من يحارب إخوانه بينما حربه على إخوانه هي حربه عى أهله بحسب أن يهلك شعبه، وليست فتن اليوم جديدة فقد سبقتها فتن لا تكاد تحصر، ولكني وقد ذكرت موقف الأئمة الثلاثة الذين صبروا وصابروا فلم يخوضوا فتنة ولم يقودوا المفتنين، فهذا إمام دار الهجرة مالك بن أنس، وهذا الإمام في مكة المكرمة الفضيل بن عياض، وذلك الإمام في العراق أحمد بن حنبل، كل هؤلاء الثلاثة برز لكل منهم موقف ضد الفتنة.

الإمام مالك إمام المدينة المنورة إمام فقه الحجاز لم يكن هواه مع بني أمية وقد أدرك آخر عهدهم، إنما كان هواه بعض الشيء علويًّا ليس عن تشيع مذهبي وإنما هو عن تأثير المودة لشيخيه عبد الله المحض بن الحسن المثنى بن الحسن بن علي بن أبي طالب، والثاني جعفر بن محمد الباقر الملقب بالصادق، كلاهما كانا شيخين له، ثم هو من أهل المدينة المنورة، ويعرف موقف الإمام سعيد بن المسيب الذي لم يبايع بني أمية، وهو يعرف أيضاً هتكة المدينة في وقعة الحرة بل وقد أصابه ضيم من المنصور وعامله، يركبونه حماراً منكساً من أجل ما ذهب إليه بأن طلاق المكره لا يقع، طافوا به طرق المدينة منكساً على حمار وهو يقول صامداً على مذهبه ((من عرفني فقد عرفني ومن لم يعرفني فأنا مالك بن أنس طلاق المكره لا يقع)) وما كان هم المنصور أبو جعفر عن طلاق المكره ولكن كل همه عن بيعة المكره، كل هذا وقع على مالك، كل هذا شغل وجدانه، وبينما هو يرى رؤية العين قتل صديقه محمد ذي النفس الذكية لأنه ثار على المنصور، كل هذا وما زال مالك يحارب الفتنة فقد قال ((فتنة ساعة شر من استبداد سنوات)). فوقعت الحرب ورميت الكعبة بالمنجنيق، والقتل الذي استشرى بين المعارضين تلقى منه مالك درساً علمه الشر من الفتن. فبايع المنصور وائتمر بأمره وصادق هارون الرشيد ونصح له، مع أن هناك من الأسباب التي ذكرنا والتي يشهدها وهو المبايع والناصر كانت تقوده إلى فتنة، ولكنه لم يكن زعيماً لكهنوت يرى نفسه يحمل صكًّا إلى دخول الجنة.

* 1992