من المقولات المشهورة بين الناس مقولة: "لو علمتم الغيب لاخترتم الواقع"؛ وقد وردت على ذهني وأنا أطالع مقالي الأسبوعي الأخير منشوراً في يوم غير اليوم الذي تعودت وقرائي الأعزاء عليه.. للإنصاف أقول إن هذه المقولة ليست حديثا نبوياً, ولكنها مقولة إيجابية للغاية؛ لا سيما أن من يستعملها لهذا الغرض الإيجابي يستعملها بعد حصول المقدر من الله العلي القدير.. البعض يرى المقولة رجماً بالباطل, وأنها تقوُّلٌ على الله تعالى الذي أمر نبيه سيدنا محمدا صلى الله عليه وسلم بقول: {قل لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} ـ سورة الأعراف/188ـ .. لا شك أن الإنسان قد يفوته من الخير ما يفوته، أو يصيبه من الشر ما يصيبه لأجل جهله بالغيب، ولو كان يعلم الغيب لتوقى الشر، ولحرص على الخير, ولكن المقولة وكما ذكرت يُتسلى بها, وفيها إشارة واضحة إلى حكمة الخبير سبحانه الذي يسيِّر هذا الكون بتدبير حكيم. ومما يتسلى به على إيجابية المقولة قصة متواترة تقول إنه في أحد المشافي شوهد مريضان مصابان بنفْس المرض, وهما على حافة الموت؛ رجل في كل نفَس ينطق بالحمد لله تعالى, ورجل في كل نفَس يشتم الأطباء والممرضين.. في لحظة من اللحظات فارقا الحياة على هذه الحال؛ الأول راض فله الرضا, والثاني ساخط فله السخط.

المقولة التي بدأت بها مقالي ذكرتني بمقولة أخرى مشهورة وهي "كل تأخيرة وفيها خيرة", وهذه الثانية تحتاج إلى بعض الضبط والتعديل لتصبح أكثر دقة؛ فنجعلها كالتالي: "لعل في التأخيرة خيرة".. يحكى أنه كان لأحد الملوك وزير حكيم، وكان الملك يقربه منه ويصطحبه معه في كل مكان. وكان كلما أصاب الملك ما يكدره، قال له الوزير: "لعله خير" فيهدأ الملك. وفي إحدى المرات قطع إصبع الملك، فقال الوزير: "لعله خير", فغضب الملك غضباً شديداً، وقال: ما الخير في ذلك؟! وأمر بحبس الوزير. فقال الوزير الحكيم: "لعله خير"!, ومكث الوزير فترة طويلة في السجن. وفي يومٍ خرج الملك للصيد، وابتعد عن الحراس ليتعقب فريسته, فمر على قوم يتعبدون، فقبضوا عليه ليقدموه قربانا، ولكنهم تركوه بعد أن اكتشفوا أن إصبعه مقطوع. فانطلق الملك فرحاً، بعد أن أنقذه الله منهم. وأول ما أمر به فور وصوله القصر، أن أمر الحراس أن يأتوا بوزيره من السجن، واعتذر له عما صنعه معه. وقال: إنه أدرك الآن الخير في قطع إصبعه، وحمد الله على ذلك. ولكنه سأله: عندما أمرت بسجنك قلت: "لعله خير" فما الخير في ذلك؟, فأجابه الوزير: أنه لو لم يسجنه، لَصاحَبَه فى الصيد، وكان سيقدم قرباناً بدلاً منه, فكان في صنع الله كل الخير.. حقاً إن الإيجابية هي الطاقة التي تشحذ النفس، وتدفع إلى المزيد، وتمنع الكسل.. إنها عطاء بلا حدود، وتضيف إلى الحياة طلاوة وحلاوة..

من القصيدة الفياشية من التراث المغاربي:

"أنا مالي فيهاش

أش عليا مني

أقلق من رزقي لاش

والخالق يرزقني..

يا قلبي ثق بالله

فهو المعطي المانع

وارضى بقضاء الله

إنك لله راجع

ماذا في علم الله

(الخيرة في الواقع)

تدبيرك ما يسواش

من تدبيرك دعني."