جميعنا عشنا صباح الثلاثاء الفائت قصة محزنة ومأساة حقيقية، ذهب ضحيتها الطفل معتز بن خويتم بن سعد الحارثي، الذي لم يتجاوز الثانية عشرة من عمره، إثر شجار وقع بينه وبين طفل آخر، ورغم عظم الحدث وكبر الوجع على أسرة معتز، إلا أن المواطن السعودي الشهم «خويتم الحارثي» آثر أن يعفو، ويطلب الإفراج عن الطفل الذي تسبب في موت ابنه معتز رغم الفاجعة الكبيرة، فليس هناك ما هو أكثر قسوة على الوالدين من فقد «الضنى»، وقد عبر الشاعر ابن الرومي عن ألم الفقد بقوله «أولادنا مثل الجوارح أيها.. فقدناه كان الفاجع البين الفقد»، ليس هذا فحسب، بل طالب بألا يلحق منسوبو المدرسة التي كان يدرس فيها ابنه أي مساءلة أو مساس من عقوبات قد تضرهم، موضحا أن عفوه لله احتسابا للأجر والثواب، وقد أعادتني قصة المواطن خويتم، جبر الله مصابه وأحسن عزاءه، لتذكر حكاية أخرى من قصص العفو التي تجلى فيها معدن المواطن العربي السعودي الذي يظهر في أوقات المحن والأزمات، فقدت شهدت محافظة خميس مشيط قبل سنوات حادثة إطلاق نار ذهب ضحيته ابن المواطن «صالح محمد علي الهداف»، الذي ضرب أروع الأمثلة حينما عفا عن قاتل ولده، رغم مرارة الألم الذي سكن نفسه على فقده لابنه المعلم بإحدى المدارس، لكن هنيئا لمن عفا، فالعفو أعلى منزلة وقدرا عند الله الكريم الذي سيعوض كل من عفا لوجه الكريم بما تهنأ به نفسه «يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم»، ويكفي أن أعظم أجر على العفو المغفرة «وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم».

حقيقة أمام هذه القصة العظيمة من قصص الشهامة والتضحية الكبيرة التي جسدها خويتم بتنازله عن المتسبب في مقتل ابنه، وهو يقدم العفو على أي أمر آخر امتثالا لأمر الله «فمن عفا وأصلح فأجره على الله»، فقد توقفت طويلا وأنا أسترجع عشرات القصص لحوادث قتل سابقة، وقد تحولت فيها مجالس الصلح إلى حفلات وشيلات وشعر وشعراء، ومهرجانات للأكل تنحر فيها عشرات الرؤوس من الأغنام والجمال، ووصلت فيها الديات إلى أرقام فلكية من ملايين الريالات بما لا يمكن أن يخطر على بال أحد، وهدايا وسيارات وعقارات وتجمعات قد تنطوي عليها مخاطر نتيجة لاختلاف الآراء وتعارضها، حتى أضحى الأمر تجارة لها سماسرتها وموظفوها وطالبوها ومنتفعوها، فتشكلت من مهرجانات الديات ظاهرة مزعجة للمجتمع، جعلت العقلاء يتنادون إلى تدخل الدولة لوضع حد لهذه العبثية والفوضى التي تحدث، وتذهب فيها ملايين الديات لجيوب الوسطاء والمتنفعين والمفاوضين وأتباعهم، وكانت دعوات العقلاء تنطلق من أهمية حماية نسيج المجتمع الذي أنهكته التجمعات والتبرعات وأرهقت فيها القبيلة بحفلات لجمع الملايين التي تذهب هدرا، وليتها استثمرت في أمر لصالح الميت أو أسرته بما ينفعه أو ينفعهم في الآخرة، عموما كان لزاما الاستجابة لدعوات العقلاء وقطع الطريق على تجار الدم.

وقد سمعت أخيرا، أنه تم إقرار العمل بتوصية مجلس الشورى التي تقدم بها مشكورا الدكتور هادي اليامي، العضو الفاعل داخل المجلس في لجنة حقوق الإنسان، لتحديد ديات الصلح، على أن تراعي وضع أسرة المقتول وظروفها المحيطة بها وظروف الحدث، ومن خلال متابعتي للموضوع فهمت أن المبلغ المحدد قابل للتفاوض والمراجعة، وأنا حقيقة أدعو إلى أهمية الالتزام بما أقر من قبل الجميع، والأخذ بما تمت التوصية عليه، وأن يتعاون الجميع، خاصة شيوخ ونواب القبائل، على تطبيق التوصية حتى لا تعود ظاهرة المتاجرة بالدم إلى السطح، ونعود إلى نقطة البداية التي شكونا منها كثيرا.