في المجتمعات الحديثة، لا يأخذ سوق العمل، عمل ربات البيوت بمحمل الجد، ولا يعتبره عملا ذا قيمة إنتاجية حقيقية، بقدر ما يراه مجرد شؤون شخصية تخص ربة البيت وحدها فقط. فربات البيوت لا يبعن قوة عملهن كما يفعل الآخرون الذين انخرطوا فعليا في عجلة الاقتصاد، لذلك لم يرصدهن الاقتصاد إلا بعدما دخلن سوق العمل، وأصبح هناك تضارب وأدوار مزدوجة بين ما تقدمه الأم للأسرة وما تقدمه لسوق العمل.

ولو تخيلنا وجود جمعيات صديقة للأسرة، لكان جل نشاطها موجها ضد سوق العمل، فكل أنظمة السوق تدفع أفراد الأسرة كي يشاركوا بفعالية أكبر في الحياة المهنية، حتى لو كانت الضحية هي كيان الأسرة. فخروج الأب من اجتماع مجلس الإدارة في الشركة لأخذ ابنه من المدرسة، أو طلب الأم إجازة أمومة من جهة عملها للبقاء وقت أطول مع الأسرة، يعدان من القضايا التي تعكر صفو أرباب العمل.

ناضل سوق العمل كثيرا كي يعطي المرأة الإرادة الكافية للتخلص من تأنيب الضمير، عندما تضع طفلها الصغير مع خادمة منزلية أو جليسة أطفال في فترة غيابها التي قد تطول لمدة تتجاوز ثماني ساعات، ومنحها المبررات لتضع طفلها الصغير في دور الحضانة أو رياض الأطفال لنفس المدة الزمنية، وجعل الأب ينسى الفوضى العارمة التي تجتاح العائلة أثناء يوم الدوام العادي والروتيني، ما بين توصيل الأطفال ذهابا وإيابا لمدارسهم، والذهاب لمقر الوظيفة لأداء عمل بدوام كامل للزوج والزوجة، وقد يقطع مجرى العمل عودة الأب أثناء ساعات الذروة في المدن الكبرى لإرجاع ابنه من المدرسة للبيت، وقد تتنصل الأم من مقر الشركة للعودة للبيت لأن طفلها الصغير مصاب بارتفاع درجة الحرارة.


في ظل هذا الكفاح اليومي في خدمة سوق العمل، أصبحت مساهمة الجد والجدة ضرورية. فالجد الطاعن في السن أصبح يساهم في عملية التوصيل اليومي من وإلى المدرسة، والجدة المريضة أخذت تلعب دور جليسة الأطفال، فالحياة اليومية أشبه بحرب طاحنة في ظل أزمة متفاقمة بسوق العمالة المنزلية ومكاتب الاستقدام، وكل أسرة لديها خادمة وسائق على الأقل، وبدونهما فإن الحياة ستكون مستحيلة، إضافة لسوء خدمات توصيل الطلاب والطالبات للمدارس، الذي يجبر الأب على توصيل أطفاله بنفسه.

لا شك أن سوق العمل عندما فرض إيديولوجيته المتعلقة بالمساواة، لم يأخذ هذه القضايا بعين الاعتبار، وعندما جعل المساواة محددا من محددات المرأة الحديثة، وفرض عليها العمل بدوام كامل، فقد جعل أي أفكار تتعارض مع أفكاره، مخالفة لكل ما هو عصري وتقدمي، وكل من يخالفه فقد يتهم بالرجعية والارتداد إلى عصر ربة البيت.

بعد إنجاب الأطفال فإن أي حركة تسعى للمساواة، ستكون غير ممكنة بل مستحيلة بدون وجود العمالة المنزلية، وفي الدول الأوروبية لم تكن المساواة تتم ولو شكليا دون وجود رياض الأطفال. فرياض الأطفال تعد جزءا لا يتجزأ من حياة كثير من الأسر في الدول المتقدمة، فهي الملاذ الأول والأخير نحو المساواة، وهي المأوى الوحيد للطفل عند غياب والديه.

إن دور الحضانة ورياض الأطفال التي تكتظ بها المدن الصناعية تعد من مبتكرات سوق العمل لتجنب أي خلل أو اهتزاز في مفهوم المساواة، وقيم الحياة المهنية ومسيرة العمل ومعايير التوظيف، ومن هنا فإنه يجب علينا أن نفكر بصوت عال، ونطرح التساؤلات حيال قضايانا اليومية مع سوق العمل، ففي مجتمعنا توجد أزمة في توصيل الطلاب لمدارسهم، وأزمة حضانة ورياض أطفال، وهذه الأزمات تستنزف كثيراً من الجهد والتفكير، وتجعل حياتنا اليومية منهكة للأعصاب.

خدمة توصيل الطلاب من وإلى المدرسة لدينا غير آمنة ولا تطبق الحد الأدنى من معايير السلامة، وأغلب من يمتهنها عمالة من المخالفين لأنظمة العمل، واللجوء لهذه العمالة عملية محفوفة بالمخاطر بلا شك، وغير آمنة للأطفال.

لا يوجد مشروع رياض أطفال متكامل في مدينة كبرى كالرياض، يغطي أحياء المدينة بالكامل، ويعطي للأسرة خيارا منافسا للعمالة المنزلية ومكاتب الاستقدام التي استنزفت جيوب كثير من الأسر، فضلا عن المماطلة وسوء الخدمات.