ضمن مقال الأسبوع الماضي أشرت إلى أن الملحقيات الثقافية لا تستطيع الاضطلاع بدورها الثقافي نظراً لاختلاط المهام والمسؤوليات، واقترحت فصْل الملحق الثقافي عن التعليمي، أو بتوزيع المهام من أجل تحقيق الاتصال الثقافي بإيجابية أكثر.
فالاتصال الثقافي هو في جوهره تواصل إنساني، إلا أن قيم التواصل الاجتماعي والاقتصادي والسياسي تتجسد من خلاله بشكل غير مباشر، فالثقافة دائرة واسعة، تشمل المنتج الفكري والأدبي والاجتماعي، من عادات، وتقاليد، وفنون، وتاريخ، ولغة، ومعتقدات.. وذلك بحسب علماء علم الإنسان. فالثقافة تحوي كل هذه العناصر وأكثر، ولذلك يمكن أن تخوض غمار المنافسة، فكما للرياضة أبعادها وجمهورها؛ للثقافة أيضاً أبعادها الأكبر والأعمق وجماهيرها، وبالتالي يمكن إبراز الهوية الثقافية والرؤية السياسية والعلاقات الإنسانية عبرها.
صحيحٌ أن وسائل الاتصال، باختلاف أنواعها، أسهمت في تحقيق جزء كبير من الاتصال الثقافي بين المجتمعات المختلفة، إلا أن الاتصال الثقافي المباشر يعد ضرورة قصوى لتحقيق المبادئ الإنسانية، وتكريس القيم العليا كالتسامح والتعايش والسلام. وتفعيل هذه القيم خارجياً منوط بتلك الجهات التي تعمل خارج حدود الوطن، والتي من ضمن مهامها تنظيم سبل التواصل الثقافي، وإبراز المكانة الثقافية للمملكة العربية السعودية. وبطبيعة الحال لن يكون نشاطها متعارضاً مع النشاط الخارجي لوزارة الثقافة والإعلام الذي ما يزال يحتاج هو الآخر لرؤية أبعد وأهداف أعمق. ومن هنا تبرز أهمية إنتاج الثقافة من جهة ووسائل عرضها من جهة أخرى، فالإنتاج والعرض قد يكونان وجهين لعملة واحدة، من خلال عمل متخصص يهدف إلى دعم المعرفة بقوة، إلا أن هذا الدعم لن يتأتى بطبيعة الحال دون وجود مراكز ثقافية لتقديم الثقافة المحلية للعالم، وربما أن أفضل من يحقق همزة الوصل الآن هي الملحقيات الثقافية، عبر عمل جماعي كحلقات مترابطة، من خلال الاعتناء بالثقافة السعودية وتقديمها للخارج- دون تكلف أو تزييف- عبر أعمال الترجمة والأنشطة والمهرجانات الثقافية، ليتمكن المتلقي/الفرد/المجتمع، من تكوين انطباع إيجابي، ولا سيما إذا كان لديه حكم سلبي مسبق حول هذه الثقافة.
ومن المؤكد أن الملحقيات، باعتبارها مراكز ثقافية مقترحة، بحاجة إلى دعم مادي ومعرفي وإعلامي، لتستطيع إعادة صياغة الرأي العام الخارجي من خلال التواصل الثقافي؛ وخاصة أن العالم يضعنا تحت دائرة الضوء، فأي قضية داخلية يكون انعكاسها قوياً في الخارج بفعل تكنولوجيا الإعلام والاتصال.
وربما يسود أيضاً الانطباع السائد عن مجتمعاتنا العربية بأنها لا تملك فعلاً ثقافياً، إلا أن التواجد الثقافي الخلاّق في محيط الثقافات الأخرى قد يغيّر هذه النظرة أو على الأقل يعمل على تقليصها، وخاصة إذا ما وجدت نماذج ثقافية جيدة تؤثر عن طريق إنتاجها الثقافي.
وبحكم أن المثقف هو نتاج لثقافته التي تعاني أزمة ما، فإن مهمته تجاوز هذه الأزمة من خلال نشر وإنتاج الإبداع والفكر والمعرفة بشكل عام، مما قد يتيح أثراً إيجابياً كبيراً في تغذيتها الراجعة، فيتحقق بذلك نمو الفكرة التي تتحول من بذرة فردية إلى نبتة جماعية يرى الجميع ثمارها اليانعة.
وتعد الشؤون الثقافية في الملحقيات من الإدارات المحورية، إلا أني أعتقد أن المشكلة التي تكون على المحك دوماً هي جسامة الدور المنوط بها مقابل محدودية الإمكانات، وهذا بالتأكيد عائق أمام الانطلاق في النشاط الثقافي، ونتيجة لذلك ما تزال العلاقة فاترة بين المثقف السعودي وتلك الأنشطة والفعاليات الخارجية.
وبما أن الحل الأسهل إمكانية اللجوء إلى ما هو متاح حالياً، فإن الملحقيات الثقافية السعودية يمكن أن تتصدى لدور ثقافي مميز، بعد إيجاد توازن ما بآلية معينة- بالفصل أو غيره - لتحديد مهام العمل التعليمية والثقافية، كل على حدة، وخاصة أن الحاصل على أرض الواقع الآن هو أن الجزء التعليمي ابتلع الجزء الثقافي في الملحقيات، على الرغم من وجود جهود بعض السفراء والملحقين الثقافيين، وهم من المهتمين أو المشتغلين بالشأن الثقافي، وأذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر: السفير الدكتور محمد آل الشيخ في فرنسا، السفير الدكتور عبدالعزيز الصويغ في كندا، الأستاذ عبدالله الناصر حين كان في ملحقية بريطانيا، الأستاذ ناصر البراق في ملحقية المغرب.. فمثل هؤلاء لديهم الحماسة نتيجة الاهتمام بالشأن الثقافي، ولكن نظراً لأن مثل هؤلاء قلة مع الأسف، فإن ما قُدِّم ويقدم غير كاف لتقديم منتَجنا الثقافي كمنتَج مختلف.. إلى متلقٍ مختلف.