في يوم السبت الماضي (31 مارس) شهدت العاصمة السعودية ولادة منظومة جديدة هي "منتدى التعاون الإستراتيجي" بين مجلس التعاون والولايات المتحدة الأميركية، دشنه اجتماع مطول بين وزراء خارجية دول المجلس ووزيرة الخارجية الأميركية. ويجب ألا يفوتنا ملاحظة أن انعقاد الاجتماع في حد ذاته في مقر مجلس التعاون، وتأسيس هذا المنتدى الرسمي كمنظومة متكاملة، هما مؤشران مُهمّان لتطورات كبيرة تمر بها المنطقة، وتحديات جديدة متنامية أقنعت الجانب الأميركي بفوائد العمل بشكل تكاملي مع مجلس التعاون كمنظمة إقليمية وليس كدول منفردة، كما كان عليه الحال سابقاً.

وثمة عوامل عدة أسهمت في هذا الاهتمام المستجد من قبل الولايات المتحدة بمجلس التعاون، وتأسيس المنتدى. أولها توجه إدارة الرئيس أوباما في السياسة نحو المنطقة، الأمر الذي عكس توجهات الإدارات السابقة التي كانت تفضل التعامل بشكل ثنائي مع الدول الأخرى، على التعامل معها من خلال منظوماتها الإقليمية، بما في ذلك علاقاتها مع دول مجلس التعاون. والعامل الثاني يعكس اعتراف الولايات المتحدة وتقديرها لدرجة التكامل الداخلي في مجلس التعاون من جهة، وبدوره المتنامي في قضايا المنطقة، على سبيل المثال في اليمن وليبيا والآن في سورية، وهو اعتراف أصبح واضحاً بعد دعوة خادم الحرمين إلى تحول المجلس إلى اتحاد لدوله أكثر تماسكاً وفعالية، وما لقيته تلك الدعوة من استجابة حقيقية في دول المجلس على المستويين الرسمي والشعبي.

والعامل الثالث هو حاجة الولايات المتحدة، والعالم، للاستجابة للتهديدات التي تواجه أمن منطقة الخليج. ويتضح هذا العامل من خلال المساحة التي خُصصت له في البيان الأول للمنظومة الجديدة، ولذلك سأتناوله لاحقاً في مقال خاص.

والعامل الرابع والأخير عامل اقتصادي، ويمكن استنباطه من الإشارة في البيان الختامي إلى أن أحد أبعاد المنتدى اقتصادي، وهو ما يعكس التغير في موازين القوى الاقتصادية بعد الأزمة المالية العالمية، حيث مر الاقتصاد الخليجي خلال هذه الأزمة دون أن يتأثر كثيراً بها، مقارنةً ببقية دول العالم. ففي حين أن الاقتصاد العالمي انكمش خلال هذه الأزمة، ومعه معظم الاقتصادات الصناعية، حافظت دول المجلس على معدلات نمو إيجابي لا بأس بها، بل إن الاقتصاد الخليجي قد تضاعف خلال السنوات القليلة الماضية، وتجاوز الحجم الإجمالي لاقتصاد دول المجلس (1.3) تريليون دولار العام الماضي، ومن المتوقع أن يتضاعف مرة أخرى خلال العقد الحالي.

وبالطبع كانت هناك مرات لا تحصى، التقى فيها وزراء ووزيرات خارجية الولايات المتحدة بنظرائهم في دول المجلس منفردين. وكانت أيضاً هناك مرات عديدة التقى فيها وزراء خارجية دول المجلس مجتمعين مع نظرائهم الأميركيين، خاصة من خلال اللقاءات السنوية التي تُعقد على هامش افتتاح دورات الجمعية العامة للأمم المتحدة، ولكن ما هو جديد هو لقاؤهم من خلال تأسيس منظومة رسمية ستكون مشرفة على تطوير التعاون بينهما من منظور إستراتيجي متكامل في جميع المجالات التي تربطهما، بدلاً من سلسلة اجتماعات متفرقة متجزئة لا يربطها رابط أو منظور موحد. ولتجسيد هذا الإجماع المستجد في رؤية الجانبين، جاء اجتماع وزراء خارجية دول المجلس ووزيرة خارجية الولايات المتحدة، السيدة هيلاري كلينتون، في يوم السبت الماضي (31 مارس 2012) في الرياض لإطلاق المنتدى الجديد. وكما قالت الدول المشاركة في المنتدى، فإن المقصود منه هو أن يكون "إطاراً رسمياً للتعاون الإستراتيجي والسياسي والأمني والاقتصادي"، وبالإضافة إلى الاجتماعات الدورية للوزراء، قرر الوزراء تشكيل لجان وفرق عمل متخصصة، من كبار المسؤولين والخبراء من الجانبين، في جميع المجالات ذات الاهتمام المشترك. وفي الاجتماع التأسيسي للمنتدى، أكد الوزراء أن الأهدف الرئيسية من تأسيسه هي "تعزيز العلاقات بين المجلس كمنظومة إقليمية والولايات المتحدة في جميع المجالات، والعمل معاً على تحقيق مصالحهما المشتركة في منطقة الخليج، والسعي لتحقيق الأمن والسلام والاستقرار في منطقة الشرق الأوسط بكاملها." وفي المجال الاقتصادي، ولتأكيد الطبيعة الشمولية للمنتدى الجديد، رحب الوزراء بالتقدم الملموس الذي تم إحرازه في المفاوضات لإبرام "الاتفاقية الإطارية للتعاون الاقتصادي والتجاري والاستثماري والفني" بين الولايات المتحدة ومجلس التعاون، وأعلنوا عزم الجانبين على التوقيع عليها خلال النصف الأول من عام 2012م.

وكما أسلفتُ فإن المجال الدفاعي والأمني هما بُعدان رئيسيان للمنتدى الجديد، ولهذا بحث المنتدى يوم السبت كيف يمكن للجانبين مواجهة التحديات المتعلقة بهذين البُعدين من خلال التعاون بين الولايات المتحدة والمجلس كمنظومة إقليمية متماسكة وفعالة، ليسَ كبديل للتعاون الثنائي بين الولايات المتحدة ودول المجلس منفردة، بل كرافد وداعمٍ لها.

ومن الواضح أن بعض هذه التهديدات من الأفضل أن يتم التعامل معها بصفة جماعية، لكي تتم مواجهتها بفعالية. ولكن بعض التهديدات أصبح من الضروري معالجتها جماعياً، ولم يعد ذلك ترفاً أو خياراً، ويشمل ذلك خطر انتشار أسلحة الدمار الشامل، والصواريخ بعيدة المدى، والإرهاب، وتهديد الملاحة في مياه الخليج والبحر العربي. وتأكيداً لصفة الاستعجال، وضع الوزراء لأنفسهم ومسؤوليهم جدولاً زمنياً ضيقاً، فقبل حلول شهر مايو المقبل، أي خلال أقل من شهر، يجب أن يتم تشكيل فرق العمل المتخصصة، وأن تجتمع هذه الفرق خلال الصيف، وتقدم توصياتها إلى الاجتماع الوزاري القادم، المقرر عقده في شهر سبتمبر 2012.

والبرهان الأكيد على نجاح وفعالية المنتدى الجديد سيكون في مدى الالتزام بهذا الجدول الزمني وفي جدية ما يخرج عنه من نتائج. ولي عودة إلى هذا المنتدى قريباً لمناقشة أبعاده المختلفة، والتهديدات التي تواجهها المنطقة وكيف يمكن له الإسهام في مواجهتها.