لم يعد خافياً أن الحديث عن عسكرة الثورة السورية، أمر لا يدخل من باب السجال واختلاف الآراء، بل من باب الحديث في أمر واقع أجُبر الناس عليه، فالناس الذين بدؤوا ثورتهم السلمية، ورفعوا اللافتات الوطنية المدنية لشهور طويلة، لم تصمد أمام القصف المدفعي العنيف على المدن، ولا أمام المجازر الوحشية التي لم يتوقف النظام يوماً عن ارتكابها في المدن المنتفضة، واضطروا لحمل السلاح، ليس للدفاع عن أنفسهم فقط، بل لتشكيل حماية عسكرية للمتظاهرين السلميين.

وإن كانت سلمية الثورة تسير جنباً إلى جنب مع العسكرة، فلا بد من الاعتراف أن مظاهر الثورة السلمية تتراجع كل يوم، أمام وحشية ما يقوم به النظام، والنشاطات المدنية السلمية الثورية، رغم قلتها ما يزال لها التأثير الكبير على الرؤية الأخلاقية، التي بدأت منها الثورة.

وإن كان حمل السلاح أمرا حاصلا لا بد منه، بعد انشقاق الجنود، وانقسام الجيش إلى جيشين: الحر والنظامي، فلا بد من الاعتراف أيضاً أن هناك مشكلة أكبر يعاني منها الجيش المنشق، وتحتاج إلى تأمل وحل سريع، لا تتمثل فقط في التحولات النوعية في مسار الثورة، بل تتلخص في إعادة مآلات هذه الثورة، إلى خطها الصحيح، حتى بوجود السلاح، بعيداً عن الانقسام والاقتتال الأهلي والطائفي، الذي يسعى إليه النظام بشكل ممنهج.

أهم هذه الخطوات الإقرار بحقيقة الفوضى الناجمة عن الانشقاق المتزايد في الجيش، وانضمام الكثير من المدنيين غير المدربين إلى صفوف الجيش الحر، ومنهم جماعات في غالبيتها تم قتل عائلاتها وتهجيرها وقصف بيوتها. هذا الانضمام لا يشكل تكتيكاً منضبطاً واستراتيجياً في حلقات الجيش المنشق، بل هناك جماعات مسلحة تعمل بشكل منفرد بعيداً عن مركزية الجيش الحر، وقرارات قياداته، وتقوم بأعمال عسكرية غير خاضعة لرقيب وحسيب.

تشكل هذه المجموعات سؤالاً مخيفا للكثيرين من أنصار الثورة السورية، بعيداً عن حالات رفض العسكرة، وحمل السلاح التي ينادي بها البعض ، لكن وجود هذه الجماعات يجعل من إمكانية الفوضى التي تترافق مع السلاح بمزيد من القتل، وحالات الانتقام، فالعنف ينتج ثقافته المضادة العنيفة التي يجب ضبطها ورفضها وتحليل آلياتها، للتخفيف منها ما أمكن.

وبغض النظر عن الأهداف التي تسعى إليها هذه الجماعات المسلحة من دفاع عن المدنيين، أو محاولة استرداد المخطوفين من قبل عصابات الأمن والشبيحة،، فهناك ما يخيف في تركها بعيدة عن مركزية وسلطة الجيش الحر، خاصة بعد حالات التجييش الطائفي التي يقوم بها النظام، كما يحصل في "حمص" حيث أدت الهجمات الوحشية والمجازر، التي يرتكبها النظام في الأحياء ذات البعد الطائفي الواحد، إلى احتقان وكراهية بين الأهالي، وبرزت بعض ردات الفعل الانتقامية المسلحة، قد يكون من الخطورة عدم الإشارة إليها، أو الإقرار بوجودها ومعالجتها بشكل سريع، وهذا يتطلب الانتباه إلى بنية الجيش الحر نفسه، وتنظيم صفوفه وترتيبها، على أساس أنها النواة المستقبلية للجيش الوطني السوري، بعيداً عن الانتماءات الطائفية أو الانتقامية، وربط خطة الجيش الحر، بأعمال المعارضة السياسية والمتمثلة في الغالب بالمجلس الوطني، وهو ما حصل مؤخراً في "مؤتمر أصدقاء سورية" الأخير في إسطنبول، حيث تمت الإشارة بشكل واضح إلى ارتباط المجلس بالجيش الحرّ، والدعم الذي يقدمه له، وهي خطوة إن كانت حقيقية وفعلية، وذات منهجية واضحة الخطوات والتنفيذ، ستكون لها نتائجها الإيجابية، بغض النظر عن الاتفاق مع سياسة واستراتيجية المجلس الوطني أو الاختلاف معها، لكن الغطاء السياسي للجيش أمر لا بد منه، ليجتمع العقل والقوة معاً، هذا في حال اعترفنا فعلاً، بأن الجيش الحر يشكل قوة، وليس حتى الآن مجرد جماعات رفضت أوامر القتل وتحمل سلاحاً بسيطاً، وتقوم بالدفاع عن النفس وعن المتظاهرين، وأحياناً تقوم بغارات هجومية على بعض المواقع العسكرية النظامية.

ومن المبكر الحكم على نتيجة هذا التحالف بين العسكر المنشق والمجلس الوطني، لأنه ما يزال تحالفا لفظياً، ولم نشهد أي واقع له، سوى التصريحات المؤيدة، لكن أي خطوة من شأنها ضبط الحركة العسكرية للجنود المنشقين وفق رؤية سياسية، ودفعها باتجاه الدفاع عن النفس والسلمية، هو أمر محمود ولصالح الشعب السوري.

ربما يبدو هذا الكلام ضرباً من الخيال والرومانسية، بعد سنة من القتل والتشريد والتهجير، أن نطلب الانضباط من الناس، الذين يريدون أن يحتموا بما يجعلهم وأطفالهم على قيد الحياة، ولكن أن تبدأ الثورة بالتغاضي عن مشاكلها، أمر سوف ينهيها، ويؤدي بها إلى مآلات لا تحمد عقباها، ليس على صعيد السلم الأهلي فقط، بل وعلى صعيد مستقبل هذه الثورة، التي بدأت من أجل كرامة وحرية الشعب، ويجب أن تنتهي بإسقاط النظام، وبداية الطريق نحو هذه الحرية والكرامة.