سبق في القسم الأول من هذا المقال الحديث عن تعريف مصطلح الخصوصية، وبيان أهميتها، وطرح استشكال وجوابه، وفي هذا القسم الثاني سنتحدث عن خصوصية المملكة العربية السعودية، ومشروعية المحافظة عليها.

الحقّ أنني لا أعلمُ لماذا الحديث عن خصوصية المملكة العربية السعودية يُغضب البعض مع أن جميع المجتمعات في كل أنحاء العالم تتحدَّث عن خصوصيتها، ويدعو مفكِّروها وعقلاؤها إلى عمل ما يمكن عمله كي لا تُفَرِّط فيها أممهم فتقع في الانسياق أو الذوبان وراء كل تحدٍّ ثقافي؟! فمثلًا مفكِّرو دول أوروبا الغربية كانوا يخشون من المدّ الثقافي الشيوعي، ومع أنّ دولهم قائمة على حرية الرأي إلا أنها كانت تَحُول دون تسرُّب الماركسية إلى بلادهم، ولا أعني الماركسية كحزب سياسيّ فقط، بل كل ما يمثِّل الماركسية من أدب وشعر وغناء، وأضرب مثالا على ذلك بمكسيم غوركي الذي كان أدبه المخلّص للماركسية سببا لمعارضته في أوروبا لدرجة رفض ترشيحه لجائزة نوبل خمس مرات، وكان ذلك في وقت مبكِّر جدًّا، وهو وقت قوَّة الدعاية والقسوة الشيوعية إبَّان حكم لينين وستالين، وعموما كانت أوروبا الغربية بشكل عامّ حذرة جدًّا من نشر الأدب الماركسي لما يمثِّله من عدوان على القِيَم والتاريخ الأوروبيَّيْن، وحتى الأدباء الماركسيين الذين شجَّعتهم أوروبا الغربية، إنما فعلت ذلك لأن أوروبا كانت تُخَاطِب بهم بيئات بعيدة جدًّا عن البيئة الأوروبية، وهم رعايا الدول الاستبدادية في أميركا الجنوبية، من أمثال مغويل إنجيل، الأديب الجواتيمالي الذي مُنح جائزة نوبل في ستينات القرن الماضي.

وفي داخل أوروبا الغربية كان الغرب الأوربي يخشى من المدِّ الثقافي الأميركي بعد إنقاذ الولايات المتحدة أوروبا من العدوان الفاشي، وما زال الويلزيون والأسكتلنديون والأيرلنديون يواجهون الثقافة الإنجليزية ويحرصون على تدارك ما يمكن تداركه من خصوصياتهم.


بل إن موجات العنصرية التي تجتاح أوروبا اليوم أحد أبرز أسبابها: قلق العنصريِّين على ثقافات بلادهم من المدِّ الإسلامي.

والمفارقة: أن الحديث عن مخاطر العولمة كان في أوروبا أكثر منه في البلاد العربية، مع فارق مهمّ وهو أن التحذير منها لم يكن لدى المثقفين الأوروبيين يُوَاجَه بتسطيح وازدراء كما هو الحال عندنا، إذ كان كثير من كتابنا يوهمون المجتمع بأن العولمة تعني استخدام التقنيات الحديثة والاطلاع على ما عند الناس، حتى وصل الأمر لأن يَبُثَّ التلفزيون مسلسلا تمثيليا يشرح كيف أن العولمة ليست سوى الانتقال من البيئة القرويَّة المتخلِّفة إلى البيئة المدنية الراقية، بينما تُؤَلَّف في الغرب الكتب الكبار في بيان مخاطرها ككتاب (فخ العولمة) لهانس بيتر، وكتاب (ما هي العولمة) لأولريش بك.

إن كل شيء صغر أم كبر يتغيَّر في أُمَّة لتُشابه أمة أخرى فيه يُحْسَب في عِداد الخسائر في المعركة الحضارية، وقد نتساهل في عادة واحدة أو سلوك واحد نقلِّد به أُمة أخرى، لكننا حين نفعل ذلك لا نُدرك أننا فتحنا بابا لسيل من العادات والسلوكات تظل تَتَّابع حتى تُغَيِّر وجه المجتمع، ومِن ثَمَّ تُسْهم في تغيير أفكاره ورؤاه.

النبي ﷺ والمحافظة على الخصوصية:

ولذلك كان من هدي النبي ﷺ حثُّ أمته على مخالفة الأمم الأخرى في سلوكات وعادات، قد يستغرب المرء لأول وهلة قوة التحذير من التشبّه فيها، لكن النبي ﷺ كان يرمي إلى سدِّ باب الانزياح نحو الأمم الأخرى، عقيدة وفكرا وأخلاقا، وذلك بتضييق الخناق أمام تسرُّب كل ما من شأنه المساس بخصوصية الأمة.

فأمر بمخالفة اليهود والنصارى في إعفاء اللحى وحفّ الشوارب، وأمر بصبغ الشيب، وأمر بتأخير السحور وتعجيل الفطور، والتبكير في صلاة المغرب قبل اشتباك النجوم، إلى غير ذلك من الأمور التي كَثُرَت في طلبه مخالفة اليهود والنصارى، حتى قال اليهود كما في صحيح مسلم: «ما يريد هذا الرجل أن يدَع من أمرنا شيئا إلا خالَفَنَا فيه»، وفي روايات كثيرة أيضا طلب مخالفة المجوس.

وكان المجوس والنصارى ويمثّلون الأمم السائدة سياسيا وعسكريا مما يلي بلاد العرب، وكان اليهود إليهم المرجع في علم الكتاب، فكان الحضّ النبوي على مخالفتهم واضحا في التشريع، حتى عُدَّت مخالفتهم مطلبا شرعيا، والحِكْمَة في ذلك تبدو ظاهرة، وهي تحصين هذه الحضارة الإسلامية الناشئة من الغزو الثقافي، لأن مناعتها من ذلك تجعلها أقدر على التأثير في الحضارات الأخرى التي بشَّر الرسول ﷺ بدخولها ضمن الدولة الإسلامية.

المهم: أنَّ تراكم العادات المتسرِّبة عن الأمم الأخرى إلى أمة من الأمم واختفاء العادات الأصيلة تحت وطأة العادات المتسرِّبة يجعل الأمة المستقبِلَة في عداد الأمم المغلوبة، ويُهَيِّئها للانكسار العسكريّ والتبعية الثقافية.

ولستُ مُتَأكّدًا إن كان الإنجليز قد قصدوا إلى ذلك أم أنه جاء تلقائيا حينما بدؤوا بتصدير عاداتهم في الطعام واللباس للهند قبل غزوها عسكريا، وأيًّا كان فالوضع آل إلى ذلك كما حكاه الدكتور محمد محمود الساداتي في كتابه عن تاريخ دولة المغول في الهند، والشيء نفسه فعله الإنجليز في الصين قبل احتلالها، وإن كان فعلهم في الصين أشدَّ خبثا بمراحل مما صنعوه في الهند، حيث قاموا بإغراق الصين بالأفيون، الأمر الذي أدَّى إلى حَربين انتهَتَا باحتلال الصين من قِبَل بريطانيا، مع أن الأخيرة لم تكن كفؤًا للصين في أيّ شيء كما روى قصة الحربين جواهر لال نهرو في كتابه (لمحات من تاريخ العالم).

ومما يُمكن أن يقال: إن بداية البداية لرحلة الدولة العثمانية نحو السقوط كانت بعد الانفتاح العثماني على الغرب إثر معاهدة كارلوفيجي سنة 1110هـ، حيث أصبحت التقاليد الفرنسية هي ما يتسابق إلى تقليده أثرياء إسطنبول، حتى أصبح بلاء عامًّا في جميع أرجاء الدولة، انتهى بأن تقع كل ممالكها ليس تحت الاستعمار الفكري وحسب، بل تحت الاستعمار العسكري الإنجليزي والفرنسي، ثم القضاء عليها بالكلية.

إذاً فالخصوصية لأيِّ دولة أو شعب أمر مهمّ لا يُمكن لذي تفكير جادّ وحازم أن يخالف في ذلك، ولعلنا نقول: إن على الدول التي تخطِّط للبقاء أن تقوم بين الفينة والأخرى بجرد لخصوصيّاتها، وتضمين حراستها وترسيخها داخل خططها الإستراتيجية للبقاء والانتشار الحضاري.