بداية ومن منطلق كوني تربوي ومهتم بقضايا الشباب، فأنا أرفض أن تتحول تلك الحشود التي وقفت أمام بوابات ملعب الملك فهد الدولي بالرياض، من أجل حضور حفل الفرقة الموسيقية الكورية BTS، وجلهم من المراهقين والمراهقات إلى «مقياس أو ميزان» لنقيس أو نزن من خلاله مدى تقدم مجتمعنا أو درجة تحضرنا أو قياس وعينا الثقافي، فما حدث لا يمكن تفسيره بغير أن هناك «هوسا مجنونا» تجاه فرقة غنائية مكونة من مراهقين سبعة أعمارهم بين العشرين والسادسة والعشرين.

تعتمد الفرقة في الإبهار الحركي لأعضائها على المسرح، وفي عروضها الاستعراضية ومن خلال كلمات أغانيها على إلهاب مشاعر جيل المراهقين والمراهقات في كل مكان في العالم، فهم يعبرون بكلمات أغانيهم التي يكتبونها بأنفسهم بقدر أن تلامس أحاسيسهم، وبمخاطبة هموم الشباب والحديث عن أحزانهم وإحباطاتهم وآمالهم وأحلامهم، مع تحفظنا على كثير مما تشير إليه معانيها، رغم أن أولادنا لا يعرفون كلمات أغانيهم، لأنها جميعها تغنى باللغة الكورية.

ولهذا أنا أجد أن ميل أولادنا وتراقصهم وصراخهم وتفاعلهم مع الفرقة الكورية BTS ولهثهم وراء أخبارها وفعالياتها، بشكل تجاوز المعقول إلى حد بلغ ببعضهم أن يصل به الهوس إلى درجة البكاء والصراخ، كما أظهر ذلك كثير من مقاطع الفيديو التي انتشرت في مختلف وسائل التواصل الاجتماعي، بأنه لا يمكن تفسيره بغير تفسير واحد، وهو أن «الانجذاب للفرقة مدفوع بالهوس المجنون والموضة العابرة والرغبة في التقليد» زاد من تفاعلهم وهوسهم بالفرقة، الأداء الذي اعتمد عليه أعضاء الفرقة من خلال حركاتهم، وموسيقاهم، وتوظيفهم لأشكالهم وأصواتهم وإيقاعاتهم الصاخبة، واعتمادهم كذلك على جانب الأزياء والأضواء المبهرة التي ترافق غناءهم، وعلى مسرحة أدائهم الحركي أو التمثيلي من أجل خلق حالة من التفاعل من الحضور، وهذا ما شاهدناه، وهم لا يختلفون عما تقوم به فرق البوب الغربية سواء الأوروبية أو الأميركية، لكن لعل الفرقة الكورية أتت في وقت ساعدها الحظ في أن تحتل مساحة فارغة في قلوب المراهقين وبفضل وسائل التواصل التي جسرت العلاقة معهم ليس أكثر.

دون شك... إن الكوريين لم يفوتوا فرصة أتتهم في مثل هذه الظروف، فاستغلوا ذلك الهوس عند أولادنا تجاه فرقتهم BTS وبخاصة في دول الخليج العربي، ونجحوا في أن يسوقوا ثقافتهم ويوظفوها كقوة ناعمة من ضمن القوى الناعمة، التي بدأت كثير من الدول في توظيفها لنشر ثقافاتهم وأفكارهم، وهذا العمل كاف للرد على الذي لا يؤمن بفكرة الغزو الثقافي لكثير من الدول، ولذلك وجدنا من أبنائنا عندما تمت مناقشتهم عن أسباب تعلقهم بالفرقة الكورية، وهم يجيبون بأن هذا الجذب دعاهم إلى التعمق في الثقافة الكورية، فاقتحموا لغتهم وأزياءهم، وبحثوا عن طبيعة حياتهم وسعوا إلى تقليد قصاتهم وتقاليعهم، وقرر بعضهم أن يزور بلدهم، وهذا في حد ذاته يعد نجاحا للكوريين إذا ما اعتبرنا ذلك نصرا لثقافتهم أو «للهاليو الكورية» التي اخترقت عقول المراهقين والمراهقات.

لكن بحكم تخصصي التربوي دعوني أقل لكم: إنني أعد ذلك الهوس اللامعقول بالفرقة الكورية BTS مسألة وقت فقط، ثم ينتهي مثله مثل حالات الهوس التي مر بها أبناء مجتمعنا في فترات سابقة بموضات وانتهت، فكلنا يعلم ماذا أحدثته «الدراما التركية» في مجتمعنا الخليجي بشكل عام، وكيف أنها في ذاك الوقت شكلت هوسا عند الناس في متابعتها إلى درجة الذهاب إلى الهوس المجنون بـ«مهند ونور»، ومحاولة البحث عن طبيعة وأسلوب عيشهما، ومحاولة محاكاة رومانسيتهما الخيالية المثالية المطلقة التي كانت تدمع لها أعين المراهقين والمراهقات، رغم أنه لم يكن مطلقا رؤية تلك الرومانسية بشكل حقيقي إلا على شاشات المسلسلات في مشاهد تمثيلية لا تمت للواقع بصلة، ومع هذا انتهت حقبة الدراما التركية، وقبلها حقبة «الدراما المكسيكية» التي أشغلت شبابنا وشاباتنا بمئات الحلقات حيث كانت تنوف المائة وأكثر، وانشّغلوا بها إلى درجة الهوس ثم انطفأ ذاك الهوس.

واسمحوا لي ختاما أن أقول: إنه يفترض ونحن نرى هذا الهوس من أولادنا تجاه الموجة الكورية المتمثلة في الفرقة الكورية، أن تسعى الجهات المعنية في بلادنا وفي مقدمتها مؤسسات الثقافة والتعليم ومعها الإعلام إلى ترسيخ الثقافة الوطنية، إرثا وتراثا وثقافة وأدبا وتاريخا.