من ذا الذي يعيش في هذا العصر ولا يلحظ أنه عصر السرعة؟ السرعة المخيفة، نعم، مخيفة! إلى الحد تفوق الكومبيوتر على صانعه الإنسان، فهل يمكنه تدارك هذه السرعة التي فلتت من يده، والحد منها في مختلف مجالات الحياة؟

ما أنا بصدد الحديث عن مجال من هذه المجالات إلا مجال البحث العلمي. البحث العلمي جزء من هذه الحياة، ليس بمعزل عنها، وبما أن الحياة صارت كلها سريعة، إذن فالبحث العلمي بوصفه بعضها، لا ريب أنه سيصبح سريعا. وما أقف على نقده في مقالتي هذه، ليس سرعة البحث العلمي، بل تلك الأصوات التي تطالب بسحبه لطبيعة الأبحاث السابقة، متعاملة معه وكأنه جزء معزول عن الحياة، ليس جزءا من كلها السريع!

تقنيات عصر اليوم وفرت للباحث من الخدمة ما لم تكن متوفرة للباحث سابقا، فبوسع الباحث اليوم أن يكتب بحثه كاملا دون زيارة المكتبة؛ لأنه وبكل بساطة جميع الكتب متوفرة بصيغة «pdf»، أضف إلى ذلك أن المكتبات الكبرى لها مواقع على الإنترنت، بوسع الباحث أن يصل إلى الكتب وهو في بيته، في أي مدينة كان، كما أن بوسع أحدهم من خلال البحث داخل ملف الكتاب أن يكتب كلمات من الجملة التي يريدها فيصل لها مباشرة دون تقليب صفحات الكتاب كاملة، في حين أن الباحث سابقا كان يضيع من وقته شهرا كاملا في السفر للبحث عن كتاب واحد. فإذا ما تجاهلنا تأثير تقنيات عصر اليوم على إنتاجية البحث اليوم، فكأننا نقول لأحدهم: سافر على خيل، في عصر الطائرات!


وعليه، فإذا ما رام أحدهم الحديث عن سرعة إنتاج البحث العلمي، على خلاف طبيعته في السنوات الماضية، فإنه يتعين عليه أن يضع نصب عينيه أننا نشهد سرعة متفاقمة في الحياة لم تسبق في تاريخ البشرية من قبل، وأن البحث العلمي جزء من الحياة، ولكي يصل النقد إلى النتيجة المرجوة لابد أن يتعامل مع البحث بوصفه جزءا من كلية الحياة، لا يتعامل معه كسياق معزول، فالأمر سيكون شبيه بأن تطلب من أحدهم أن يثني ذراعه من خلف كوعه!

ما يثير القلق، هو أن من يمثل الأبحاث في طبيعتها السابقة، هو من الجيل السابق، ومن سيمسك بالأبحاث العلمية المستقبلية، هم رواد الجيل الحديث، أبناء الحياة السريعة. وعليه، فإنه في السنوات القادمة ستشهد الأبحاث العلمية نقلة نوعية غير مسبوقة من ذي قبل. ولتفادي هذا القلق يجب أن يتم التعامل مع طبيعة الأبحاث اليوم، نظرا لطبيعة الحياة المنتمية لها، حتى يتم التركيز على معالجة الكيفية التي تصل بها الأبحاث للنتيجة التي تحفظ العلم من الاختزال، بالنظر لطبيعة الحياة المنتمية لها.

وإذا ما تم تفهم انتماء العلوم والأبحاث لطبيعة الحياة المنتمية لها في كل عصر، فأعتقد أن الأبحاث ستحقق نتائج مبهرة، لن تحققها في الحرب التي تطالبها بأن تُكتب على طبيعة الحياة السابقة!

سأضع تعقيبا على ذلك سؤالا، لن أجيب عنه، راجية أن يصل القارئ للإجابة: إذا ما رشحنا أفضل أطروحة دكتوراه في الوطن العربي، هل سنجدها شبيهة بطبيعة تأليف ابن جني؟

وختاما أضع خيارين، للأخذ بواحد منهما:

الأول: أن يتم إيقاف سرعة الحياة كاملة، وإعادتها لنمطها السابق؛ لكي يتأنى للأبحاث حينئذ أن تُكتب كما كانت في طبيعتها السابقة.

الثاني: ألّا يتم الحديث عن طبيعة الأبحاث اليوم، إلا بالنظر لطبيعة عصرنا اليوم.