ذكر لي أحد الأصدقاء قصة بنائه مسجدا على نفقته الخاصة، وأطلق عليه اسم صاحبه الذي توفي قبل عشرين عاما، حيث كان هذا الصاحب سببا في سعادته، ورزقه بعد الله حينما أشار عليه بشراء تلك الأرض الخالية التي لم يكن فيها شيء من مقومات الحياة، ثم أصبحت بعد فترة من الزمن ذات قيمة تجارية وسكنية، وحصل على تعويض مالي كبير.

أوردت هذه القصة الحقيقية للوفاء، حينما رأينا تكريم الأوفياء في وقتنا الحاضر خرج عن المألوف، وتعدى حدود العقل ولم يستفد منه المجتمع أي شيء، بل أصبح التكريم وبالاً على صاحبه، وخسارة على من قام به من أفراد أو جماعات. المبدأ الذي يقوم عليه التكريم، مبدأ سام ونبيل وهدي نبوي كريم «فمن لا يشكر الناس لا يشكر الله»، لكن يجب ألا يكون هذا التكريم فرض عين على المجتمعات، وسببا في جلب المال أو غيره من المحتفى به، فهو إن قدم عملا إنسانيا أو تبرعا ماليا، فإنما ذلك ينبع من أهمية دوره في المجتمع وخدمته لدينه ووطنه.

إن رعاية المجتمع للوفاء وتقديم التكريم للأوفياء، دليل على الإحسان والمحبة والألفة التي تسود بينهم، لكن ليس شرطا أن نكلف المجتمع ما لا يطيقون، حتى نكرم فلانا من الناس على ما قدم من خدمات لمجتمعه، أو نفرض عليهم نمطا معينا من التكريم، أو نجعل التكريم سببا في رعاية المحتفى به لبرامج وأنشطة المجتمع ماديا ومعنويا.


النماذج الإنسانية التي قدمت دعما سخيا لمجتمعاتها كثيرة ومشرفة، ولو كانت تنتظر من المجتمع تكريمها لتعطلت عجلة التنمية، ومع ذلك لم نلمس منهم اهتماما بالغا بمسألة التكريم، بل كانوا يحرصون على العطاء دون الأخذ، والخفاء دون الظهور، والاستمرار دون التوقف.

المجتمع الذي يجير التكريم إلى عادات اجتماعية وتقاليد عرفية، لم يصب الهدف الأسمى من التكريم، ولم يع مفهوم العمل الإنساني النبيل، بل ربما كان سببا في إحباط نوايا المحسنين وتثبيط همم المخلصين، وصد الناس عن مشاريع ومبادرات ذات نفع كبير للمجتمع.

إن تكريم الأوفياء على أعمالهم وشكرهم على أفعالهم، ليس بالضرورة أن يكون موائد من الطعام أو دروعا تذكارية يصرف عليها آلاف الريالات، ثم ينتهي ذلك التكريم ببذخ وإسراف لا يعود بأي فائدة على المحتفى به أو مجتمعه. تكريم الأوفياء يمكن أن يعبر عنه بأي نوع من أنواع الوفاء، ويكون ذا نفع متعد، من خلال تخليد اسمه على دور اجتماعية رعاها، أو مشروع خيري دعمه، أو شارع وطريق قام بإنشائه أو معلم من معالم البلاد أسسه. تكريم الأوفياء ليس دَيْنا على المجتمع لا بد من رده، أو واجبا لا بد من القيام به، لكنه وفاء محمود وعمل مندوب يمكن للمجتمع فعله، فهو في النهاية إحسان يقابل إحسانا، ويبقى الخيار للمجتمع الذي يتبنى فكرة التكريم، فعليه أن يركز على الوفاء الذي يضيف قيمة لصاحبه ولا يركز على الوفاء الذي ينتهي في لحظته.