قتل البغدادي يراه البعض انتصارا إعلاميا سياسيا لترمب أكثر من كونه انتصارا إستراتيجياً حقيقياً، فتنظيم داعش ومنذ أن تراجع تمدده بعد الهزائم التي تعرض لها أصبح يتحرك تماما كما حدث مع القاعدة، منذ انحسار تمددها في أفغانستان واختباء زعيمها بن لادن عبر الخلايا التي عملت بانفراد واستقلالية إلى حد كبير، فلم تعد هناك إدارة مركزية توجه وتعمل على المدى اللوجستي، كما كان الحال في الفترة التي كان لديها حرية الحركة والتوجيه، وفي حالة داعش اليوم يمكن النظر إلى ذلك من نفس المنطلق، فقتل بن لادن عام 2011 أخرج لنا داعش وهو التنظيم الذي أظهر القاعدة بالمقارنة وكأنها حمل وديع، فلم يشهد العالم في العصر الحديث جماعة إرهابية لديها القدرة على التنكيل بكل مبادئ الإنسانية كما شهده العالم من داعش في السنوات الستة الأخيرة.
وبعيداً عن هذه الجدلية وبالعودة لأوجه التشابه بين الحالتين، لا بد من تسليط الضوء على عدد منها لكي يمكن فهم الحدث بعمقه السياسي الأميركي لا بتأثيره العسكري فيما يعرف بالحرب العالمية على الإرهاب، فقبل عام من انتخابات 2012 ومع بداية حمى الحملات الانتخابية الرئاسية التي سعى فيها الرئيس أوباما لإعادة انتخابه، خرج أوباما حينها بخطاب الانتصار، وأعلن للشعب الأميركي عن مقتل أسامة بن لادن، في وقت كان في أمس الحاجة لمؤونة انتخابية تساعده على كسب النقاط الانتخابية لمواجهة خصومة الجمهوريين الذين كانوا في قمة التجهيز للإطاحة به، وهو الرئيس الذي اتهموه بأنه يريد أن يأخذ البلاد نحو ليبرالية اشتراكية لا تتوافق مع مبادئهم ومبادئ الدولة المحافظة ذات السوق الحر.
اليوم، ونحن نعيش مرحلة الحمى الانتخابية الرئاسية لانتخابات 2020 وفي ظروف أصعب للرئيس ترمب نتيجة مواجهة تحقيقات العزل ومشاكله الداخلية المختلفة التي وضعته في موقع لا يحسد عليه، الأمر الذي يتضح انعاكسه في معدل شعبيته المتدني نسبياً، خرج ترمب في سيناريو مشابه لما قام به أوباما، وأعلن عن قتل البغدادي في وقت رجح عدد من التقارير أن توقيت العملية كان مختاراً، ولم يكن فرصة أتيحت واستغلت، بمعنى أن قتل البغدادي كان يمكن أن يحدث في وقت سابق، حيث كانت معلومات مكان تواجده متاحة للأجهزة الاستخباراتية والعسكرية، إلا أن اختيار هذا التوقيت بالتحديد له أسبابه التي كما يراها البعض مصممة لخدمة الرئيس ترمب سياسياً، لصرف الانتباه عن حالة الضغط التي يمر بها نتيجة تحقيقات الكونجرس، وليكون رده بانتصار يعمل على تجييره لصالحه باعتباره القائد الذي قضى على داعش كما يردد دائما.
إلا أن من المفارقات في هذا الموضوع تحديدا أن ترمب تصدر موجة من الهجوم الشرس على الرئيس أوباما عام 2012 عندما هاجمه عدد من المرات عبر تويتر وعبر مقابلات تلفزيونية، معتبراً مقتل أسامة بن لادن انتصاراً يجيّر لقوات العمليات الخاصة في البحرية الأميركية ولأجهزة الاستخبارات الأميركية، وليست بطولة تحسب لأوباما يستحق عليها الثناء، داعياً الأميركيين للتوقف عن تهنئته بهذا النصر الذي لم يتجاوز دوره فيه حسب وصفه بأنه قال (نعم) تعبيراً عن موافقته على إجراء العملية، في حين أن من يعرف ترمب ونرجستيه سيتابع بذهول تناقضه في التعاطي مع مقتل البغدادي والذي سيعده انتصارا شخصيا يثبت أنه القائد الأعظم للدولة الأعظم، والدليل على حبه وإخلاصه وتمكنه لخدمة بلاده كرئيس لم تشهد مثله أميركا كما يصف نفسه.
من أوجه الشبه الأخرى في تكتيك التعاطي مع الإعلانين «بن لادن» و«البغدادي» أن في الحالتين تم نشر صور للرئيس من داخل غرفة العمليات وأثناء تنفيذ العملية كما قيل، إلا أنه وعلى الرغم من تشابه الفكرة في الصورتين إلا أن الأداء بينهما مختلف تماماً، فأوباما ظهر مع فريق كبير من المستشارين والوزراء والقادة العسكريين جالساً في مقعد جانبي، الأمر الذي خلق انطباعاً بدائرة واسعة للموثوقين الذين كان أوباما يحيط نفسه بهم، وواقعية الصورة من حيث ردات الفعل على أوجه الحضور وانعدام التكلف في الجلوس والوقوف، وبين الصورة التي وزعت للرئيس ترمب التي ظهر فيها بشكل رسمي جالساً على رأس طاولة محاطا بنائبه ووزير دفاعه وقائدين عسكريين، في صورة تحمل في ثناياها تصنعا واضحاً وافتقار الرئيس لطاقم مستشارين مقربين يعلمون بالأسرار ويعملون معه في المسائل الحساسة، ربما لم يرغب الرئيس في حضور مستشاريه لكي لا يتسرب الخبر قبل أن يخرج هو ويعلنه للعالم، وهو الأمر الذي حدث بالفعل، فالعالم علم بمقتل البغدادي قبل إعلان الرئيس بثماني ساعات على أقل تقدير عبر وسائل الإعلام والسوشيال ميديا (وسيلة ترمب المفضلة لمخاطبة العالم) التي دون شك أفسدت عليه لحظة المفاجأة والإبهار التي يبحث عنها دائما.
مقتل البغدادي وإن كان في صلبه حدث مهم باعتباره هزيمة معنوية للتنظيم الإرهابي، إلا أنه في ذات الوقت يجعلنا نقف ونقرأ الحدث بشيء من الحذر، أولا لاعتباره وقع في توقيت كان هدفه الأساسي سياسيا ومصمما لخدمة أجندات انتخابية تخدم ترمب، وثانياً لاعتباره مؤشرا، إن صدق التاريخ ونأمل ألا يصدق هذه المرة، إلى أن خطراً جديدا قد يظهر في المستقبل ما لم تتعاون الدول وأولها أميركا في التعامل مع مشكلة الإرهاب من منطلقه الفكري والظرفي لا من منطلق خطره السياسي والإستراتيجي على المصالح الأميركية الحيوية حول العالم، فداعش كما القاعدة هما انعكاس لحالة فوضى خلاقة ولدتها السياسة الدولية التي تتعامل مع العالم، من منطلق المصالح الجيوسياسية لا من مطلق مصالح الشعوب واستقلال دولها وبناء علاقات احترام بينها، وهي الأسس التي يمكن أن تخلق حالة تصالح دولي قادرة على قتل فيروس الإرهاب من دون رصاص وقنابل.