أظن أن عددا كبيرا من الأسر السعودية بحاجة إلى إعادة التفكير في نظام الفصل الجائر بين أبنائها وبناتها عن أقارب الدرجة الأولى من جهة الوالدين، وذلك ليستعيد المجتمع عافيته من حيث بدأ المرض، وأعني تحديدا من مجلس الأسرة الممتدة.

فمن المشاهد التي لا أنساها في طفولتي مشهد «سفرة العائلة». لم نكن نأكل فقط بل نتعلم قيم الأسرة ومعناها، وآداب الحديث مع أقاربنا من الجنسين، جدا وهزلا.

عندما كنا صغارا كان مجلس الأسرة يحتضن الجميع، نجلس في مجلس واحد، ونأكل على سفرة واحدة، تظللنا السعادة والقرابة وحسن الظن، يلعب الصغار أمام أعين أهاليهم، ولم نتخوف أبدا من بعضنا، ابن عمك وابن خالك هو بمنزلة أخيك، خاصة إذا نشأتم في بيوت متقاربة يجمعها سور واحد. كانت للرجال والسيدات جلساتهم الخاصة في بعض الأحيان، لكن القاعدة الأعم هي الاجتماع، ولم تكن مجالس الضيوف تستخدم لاستقبال أفراد الأسرة، بل اقتصر استخدامها على الغرباء الذين لا تجمعنا بهم صلة الدم. كل هذا تغيّر بشكل تدريجي متسارع عندما سيطرت الصحوة حتى صار القريب فجأة غريبا نرتاب منه. شيئا فشيئا تباعدت اجتماعات الأسر وصارت ثقيلة على أنفس الشباب خصوصا، لأنهم منبوذون فيها.

فلم نعرف -مثلا- فكرة خروج الشباب للاستراحات بمفردهم، ومع قرنائهم من المنبوذين الآخرين من أسرهم، إلا عندما أخرجناهم من دائرة الأسرة الممتدة، وحرّمنا عليهم الحضور والوجود الطبيعي مع أقاربهم في الاجتماعات العائلية.

لقد كلفناهم وكلفنا أنفسنا ثمنا باهظا لم نكن بحاجة لأن ندفعه، فالآن بعد 30 عاما أو يزيد من الاستسلام لفكر الصحوة، تتزايد شكاوى الأسر من غياب الشباب والبنات عن المناسبات الأسرية، ونفورهم من أقاربهم، وعدم قدرتهم أو رغبتهم في التواصل معهم. لكن هذا ما زرعناه بأيدينا -مع الأسف- عندما عزلناهم وأخرجناهم وتخلّينا عن دورنا التربوي في احتوائهم. لم تكن الدعوى دينية فحسب، بل تحولٌ اجتماعي عميق جدا، تخلت فيه الأسر عن أداء الواجب التربوي المطلوب منها تجاه أبنائها، تكاسلا منها في الغالب. هذا الأخدود الذي حفرناه في عوائلنا -بحسن نية- عزل أبناءنا عنا، وسهّل المهمة كثيرا على كل من أراد السيطرة عليهم، أو توجيههم لأي فكرة كانت.

الحل -من وجهة نظري- هو في بعث الحياة في اجتماعات الأسرة الممتدة من جديد، واحتواء البنين والبنات بطريقة ذكية جاذبة محترمة وواثقة، بإشراف مباشر من الآباء والأمهات، خصوصا مع التحولات الاجتماعية والثقافية الأخرى المتسارعة في مجتمعنا. لا شك أن البدايات ستكون صعبة، لكنها ضرورية جدا للتعافي من الشلل الأسري الذي أصابنا في مقتل، وأسهمنا -مع الأسف- فيه بشكل أو بآخر، حتى صارت الأسرة الممتدة ذكرى لا يعرف عنها أبناؤنا إلا الحكايات التي نقولها لهم، فيرددون بحسرة: ولماذا تغيرتم هكذا؟.