تُعرف الصحافة بأنها السلطة الرابعة لقوة تأثيرها على المجتمع ولقدرتها على السيطرة والتغيير لكثير من الأفكار والعقول والمعتقدات، ولتمكُنها من توجيه الرغبات والاتجاهات نحو مسارات ومستهدفات معينة مقـصودة، تعكس في مضمونها رؤى فكرية وفلسفية محددة، تتبناها الصحيفة في إطار الحرية المتاحة لها، وفي ظل سياساتها المرسـومة تحت مظلتها العليا.

ومع تطور وسـائل الاتصال والإعلام المختلف بأدواته وقوة تأثيره وسعة انتشاره، اتسعت دائرة تلك السلطة وتعاظـمت قوة تأثيرها بعد أن تشـارك الإعـلام بمختلف وسائله المتقدمة، في الوصول إلى المجتمع بمختلف أفراده وشرائحه وطبقاته، والذي يفرض بدوره مسؤولية وطنية مضاعفة على المؤسسات الإعلامية والإعلاميين، في مصداقية الكلـمة وأمانة الرسـالة ونزاهة المسؤولية التي يحملونها على اختلاف مقاصدها وأهدافها.

يساهم الإعلام الهادف البناء، بمختلف أذرعه ووسائله في تنمية المجتمع وتوعيته، كما يشارك في معالجة كثير من الإشكـالات والتحديات التي تواجه المجتمع من خلال مناقشته للموضـوعات المهـمة العالـقة، وطـرحها بشفـافية في الساحة الوطـنية عبر أدوات وبرامـج مختلفة تغطي جوانب المشكلات والتحديات التي يعيشها المجتمع، فيكون المنصة العامة المتخصـصة، التي تناقش الإشكالات المختلفة بموضوعية تستهدف معالجتها، ليخدم بها المجتمع والوطن في تطلعاته، ويساهم في بناء الوعي والثقافة العامة بما يطرحه من مواد إعلامية مختلفة.

من الملاحظ أن كثيراً من الوسائل الإعـلامية بأدواتهـا وبـرامجها المختلـفة وإعلاميـيها، كثيراً ما تسعى إلى خدمة المسؤول ومحاباته عند استضـافته، لمناقشة قضية معينة تشكل أهمية للمجتمع، وتكون مثار قلق ومتابعة واهتمام عام، لمعرفة تفاصيل حيثياتها وسبل معالجتها، سواء أكانت تلك القضـايا تتـعلق بالـتعليم أو الصـحة أو العـمل أو التـجارة أو غير ذلك من الإشـكالات التي تؤرق المجتـمع في متطلباته اليومـية، فيكـون اللقاء بمثابة منصة مجانية للمسؤول، يُبرر عبرها قصـور مؤسسته في تحمل مسـؤولياتها، أو يتحـدث عـن تفاصيل لا تعني الـمواطن، وإنما حوار يـجـري للاستـهلاك الإعلامي، مُتجاهلاً فيه عقول الناس واهـتماماتهم، ومُسطِّحاً مستوى ثقافتهم وفهمهم على اختلاف شرائحهم.

يحتاج الإعلام الهادف البناء إلى إعلاميين، يتمتعون بالمصـداقية والنزاهة في الطرح البنّاء، ويجـيدون فن الحوار وأسلوبه وإدارته بذكـاء ومرونة وجرأة مقننة ولباقة شخـصية؛ تخدم الهدف من اللقاء بمعطياته المهمة، بحيث تُسـتقى الإجابات والتفـسيرات المطـلوبة من الضيف بسلاسة ومرونة، وبشفافية وذكاء وحنكة تمكِّن المتابع من الاستـفادة منه، وبما يسـاهم في الكـشف عن حقائق وتفاصيل تخدم رصد جوانب الخلل، ويساعد في معالجة القضايا للتمكن من حلها بالشكل الصحيح.

وبالمـقابل فإنه عـندما يكون الإعـلامي أشـبه بروبوت مهمته استعراض ما لديه من أسئلة تم إعدادها مسبـقاً، دون الالتفات لطبيعة الإجـابات وما تستحقه من مداخلات واعتراضات، وما تتضمنه من متناقضات أو مغالطات لا تخدم معالجة قضية ما، وإنما تستهدف إتاحة الفرصة للمسؤول لتقديم مبررات وتوضـيحات واهية، وغير مقنعة لقـضية مقلقة وقد تكـون خيوطها بدأت في الانكـشاف للـملأ، فيكـون الحـوار أشبه بمسـرحية هزلية تم الاتفاق على سيناريوهاتها وإخراجها مسـبقاً، لإقنـاع المـتابـع بـها.

التسـاؤل الملـح، هل هذا هو دور الإعلام الهادف البناء، وماذا يستفيد المـتابع من هكذا برامج؟! وهل يعتقد هؤلاء الإعلاميون أنهم بهذا الأسلوب والمستوى من الحوارات والبرامج يخدمون الوطن والمواطنين؟ أم أنهم يساهمون فعلياً في تمييع وتشتيت قضايا هامة، رغم عمق تأثيرها السلبي على الوطن والمواطنين؟ أليس الهدف الأسمى من الإعلام هو تنمية المجتمع ورفع مستوى وعيه؟ فكيف يساهم الإعلاميون في تضليله بحوارات لا تحقق الهدف منها توعوياً ووطنياً؟! لماذا يعمل الإعلاميون كمندوبي علاقات عامة أحياناً، أو كمروجين لشخصيات معينة لا تستحق هذا الزخم حولها؟! أو لتحسين صورة مسؤول وتجميل قصوره المهني في إدارة مؤسسته رغم انكشاف العجز؟! أليس مسؤوليتهم تقتضي المساهمة في وضع النقاط على الحروف والكشف عن الحقائق التي يكتنفها الغموض في واقعها المشهود؟! أليست النزاهة والمصداقية في الأداء أحد معاييرهم المهنية؟

للفساد أشكال وصور مختلفة، كما أن له مستويات وأدوات متباينة، منها ما نستطيع ضبطه مادياً وهو الأسهل لمساءلته وحوكمته، ومنه ما يكون ضمنياً بحيث لا يمكننا ضبط أدواته، لأنه معنوي تلمس نتائجه وسمومه وتشاهدها أحياناً، ولكن لا تستطيع مساءلته وحوكمته، لأنك تفتقر إلى البينة الملموسة أو الحجة المادية لمواجهته، فيكون تأثيره عميقا ومستمرا وواسع الانتشار، وذلك يتطلب أن تُكبح جماحه للحد من امتداده، وإيقافه بأنظمة وإجراءات مؤسسية تقيد تجاوزاته وتعدياته على نزاهة المهنة وأمانة عطائها ومصداقية توجهاتها ومسؤوليتها الوطنية، وبذلك يتحقق الهدف البنّاء من الإعلام ليساهم في خدمة المجتمع والوطن في تطلعاته وتحدياته.