تبادرنا الهيئة العامة للإحصاء بنشراتها الإحصائية عن واقع سوق العمل الوطني، في كل ربع من السنة (4 أشهر) والمتضمنة حالة القوى العاملة بالسوق السعودي، وما يتصل بها من خصائص مختلفة تتعلق بمستوى تأهيلها وتمكينها ومشاركتها، وغير ذلك من التفاصيل، والتي من خلالها يمكننا الوقوف على الحالة الراهنة لأحد أهم تحدياتنا الوطنية؛ ألا وهي توظيف المواطن السعودي في وطنه، وليس نحو مساعينا لتوظيفه في مكاتبنا بالخارج، أو في الهيئات الدولية المختلفة التي تنتشر مكاتبها لدينا وفي الخارج، ويندر فيها توظيف السعودي رغم مكانتنا كدولة داعمة وممولة لجميع الهيئات الدولية!

إن أهمية التعرض للبيانات الإحصائية الخاصة بسوق العمل، ليس للاستعراض والنشر، وإنما لدعوة ولفت نظر جميع الجهات المعنية بالتوظيف والتنمية في وطننا لتصحيح مسارها. وتتحمل وزاراتا الخدمة المدنية، والعمل بصفة خاصة المسؤولية الأكبر في هذا الخلل والضعف في توظيف المواطن في القطاع الخاص، باعتباره القطاع الذي يستحوذ على 9.702.123 ملايين موظف، بما يمثل %87 من نسبة المشتغلين في السوق السعودي برمته، ولا يتضمن ذلك العمالة المنزلية التي تشكل وحدها 3 ملايين ونيف عامل، ولا يمثل السعوديون من تلك النسبة إلا %32 من جملة المشتغلين في جميع القطاعات من العام والخاص، وذلك حتى الربع الثالث من 2019.

وعلى الرغم من أن هناك انخفاضا في نسبة البطالة إلى %12، بعد أن كانت في الربع الأول %12.5 ثم انخفضت إلى %12.3 في الربع الثاني من العام نفسه، إلا أنه لا يفوتنا أن هناك تدفقا مستمرا في مخرجات التعليم التي تضاف إلى عدد الباحثين عن عمل في السوق، والذي يزيد فعلياً من نسبة المواطنين الباحثين عن عمل، خاصة مع استمرار تسريح المواطنين من وظائفهم لأسباب مختلفة، وتيسير آلية توظيف غير المواطن، رغم وجود المواطن الكفؤ الذي يبحث عن عمل!

تشير بيانات 2019 للربع الثالث، إلى أن عدد الباحثين عن عمل من السعوديين بعد أن كانوا، 945.323 مواطنا في الربع الأول من العام، أصبحوا، 1.002.855 مواطنا في الربع الثاني، ليزدادوا إلى 1.025.328 مواطنا في الربع الثالث، في حين أن عدد المشتغلين من السعوديين انخفض من 3.112.029 في الربع الأول الى 3.090.248 مواطنا في الربع الثاني، إلى 3.100.812 مواطنا في الربع الثالث، وذلك يعني خروج نحو 12.000 مواطن من سوق العمل لأسباب مختلفة في العام ذاته. البيانات ذاتها تشير إلى ارتفاع مطرد في توظيف غير المواطن لنفس الفترة المذكورة، فبعد أن كان عدد غير المواطنين 9.653.212 في الربع الأول، ازدادوا إلى 9.766.784 في الربع الثاني، ليصبحوا 9.827.096 في الربع الثالث من العام ذاته، فما رأيكم يا وزارة العمل، وأنتم مسؤولون عن تنظيم وضبط سوق العمل وتيسير التوظيف فيه!. يجدر التنويه إلى أن معظم من يعانون من البطالة من السعوديين، يحملون شهادات جامعية ويمثلون %59 من جملة المتعطلين، وتمثل الإناث الحاملات للشهادة الجامعية %88.99 من تلك النسبة للمتعطلين الجامعيين، بينما يمثل المتعطلون من حملة الثانوية العامة أو ما يعادلها %25.

واقع الإحصاءات وعلى مدى سنوات، يؤكد أن هناك خللا كبيرا في سياسات التنمية والتوظيف، بالقطاع الحكومي والقطاع الخاص على حد سواء، وللحقيقة فإننا يجب ألا نلقي التهمة دائماً في تعثر التوظيف، على خلل وضعف مخرجات التعليم، سواء من حيث المستوى التعليمي وجودته، أو التخصصات المتعطل توظيفها، والدليل؛ أنه لدينا بطالة في جميع التخصصات من الأطباء والمهندسين ومتخصصي التقنية والحاسب الآلي وبرمجته وخريجي القانون وغير ذلك، بالإضافة إلى التخصصات النظرية التي ينُادىَ بإغلاقها، لعدم وجود فرص عمل لها واكتفاء السوق منها!.

القضية ليست قضية تعليم وضعف مخرجات وعدم تدريب وعدم الحاجة لبعض التخصصات-وإن كانت موجودة-، إنما الإشكالية الحقيقية في خلل السياسات التنموية والنظام المؤسسي والإجراءات المتُبعة، لعدد من مؤسسات الدولة المعنية بالتنمية، خلل لا يمكن معالجته إلا بسياسات تنموية واعية مدروسة -وليست عشوائية- خاصة بكل قطاع، تأخذ في اعتبارها خصائص المؤشرات السكانية والتطلعات التنموية، وفق رؤية إستراتيجية للدولة (2030)، وعليها تنفذ تلك السياسات وفق إجراءات مناسبة لتحقيق أهدافها، وبشكل متناسق ومتزامن بين القطاعات جميعها، بحيث تحقق في نتيجتها المنجزة رؤيتنا التنموية المستهدفة.

الملاحظ وللأسف أن ذلك جميعه تفتقده مؤسساتنا الوطنية بقطاعيها، فعلى الرغم من أن هناك هدفا إستراتيجيا ينمو نحو رفع نسبة مشاركة المواطن في سوق العمل وزيادة التوطين، تجد السياسات المعلنة وإجراءاتها المنفذة؛ لا تخدم ذلك، فعلى سبيل المثال؛ سياسات وزارة العمل: تتجه نحو تيسير سبل الاستقدام وآلية التعاقد لغير المواطن، وتخلو اشتراطات التعاقد ومتطلباته الضمنية من مستوى الجودة المطلوبة وموثوقية المؤهلات والخبرة، في حين أنها تعجز عن تحديث الأنظمة والتشريعات الخاصة بضبط توظيف المواطن ومستوى أجره اللائق ومسؤولية تدريبه وحمايته، مقابل معايير ومحفزات تمنحها.

أما التعليم فرغم ما تتضمنه أهدافه من السعي نحو الجودة والتطوير، تجد الوزارة تقلص عدد المدارس، وتضم الفصول إلى بعضها، توكل مهاما للمعلمين بما يشتت توجههم، جميع ذلك للحد من توظيف المواطن، بينما نجدها مؤخراً، تطلق تصريحات تدعو للتعاقد مع مرافقي المتعاقَد معهم للاستفادة منهم!، ومن جانب آخر تحُد من القبول في الجامعات لتخصصات مهمة مطلوبة ويملأ وظائفها متعاقدون، وتتجاهل توفير متطلبات أساسية لبيئة دراسية فاعلة في الجامعات والمدارس، وتغفل عن متابعة جودة تعليم مخرجات الجامعات الخاصة والتعليم الأهلي، وذلك جميعه لا يخدم سعيها نحو الجودة المستهدفة والمتطلبات المأمولة من جميع المنظومة.

وزارة الصحة التي تعاني من عجز كبير في مواردها البشرية من الأطباء السعوديين والتمريض، نجدها تنادي بالحد من القبول في التخصصات الطبية ورفع النسب، لعدم وجود مستشفيات كافية للتدريب، كما تُعقد اختباراتهم التخصصية عبر هيئة التخصصات الصحية، وتَحدُ من عدد المقبولين في تخصصات دقيقة مطلوبة، بينما تمتلئ مستشفيات القطاع الخاص وغيرها بالمتعاقدين غير المواطنين، والذين يتم التعاقد معهم، في غفلة وتجاهل عن تلك التعقيدات والمتطلبات المهارية والعلمية التي يخضع لها توظيف المواطن في جميع مساراته!

معالجة هذا الخلل المؤرق يتطلب تصحيح كثير من السياسات التنموية للقطاعات، المعنية بالتنمية والتوظيف بصفة العموم، وتتصدرها وزارة العمل، وعلى جميع القطاعات الأخرى أن تأخذ؛ بمؤشرات الخصائص السكانية للمواطنين في اعتبارها ومعاييرها، في توجيه سياساتها، لتحقيق تطلعاتنا التنموية، في إطار رؤيتنا الإستراتيجية 2030، التي احتوت تطلعاتنا المأمولة مجتمعة، ولكن عجزت القطاعات المختلفة حتى الآن عن بلورتها لواقع نعيشه.