يبدأ سرطان البدن بخلية «شيطانية» في النسق العضوي وشاذة بعدة أوجه وزوايا، من السهل اكتشافها من خلال التصوير الإشعاعي المُتقدم «Imaging Tests»، ثم أخذ خزعة «Biopsy» للعرض على أجهزة الفحص الميكرسكوبي للتشخيص الفارقي، بالمقارنة ببقية الخلايا السليمة، ثم تتكاثر بطرق عشوائية وهمجية لتكبر وتكبر، لتشل وظائف الخلايا السليمة وتُشكل مرض السرطان. ورغم هذا كله فإنه بالإمكان بداية الوقاية من السرطان بنسبة عالية جدا، طالما تم تجنب مُسبباته والكشف المبكر «arly detection».

وفي الوقت ذاته، فإنه يمكن الشفاء من السرطان عند حصوله بطرق علاجية مُختلفة، كالجراحة والعلاج الكيماوي والإشعاعي والنفسي.

التساؤل هنا: ما علاقة مرض السرطان بقضية الفساد؟

يُعد المُفسد خلية فردية -اجتماعية- مُؤسساتية شيطانية شاذة، من السهل اكتشافه، وله سمات وخصائص تتشابه والخلية السرطانية العضوية، ينتشر ويتمدد هنا وهناك، ليُشكل مرض الفساد «Corruption» بعوارض تتسم بتُخم مالية غير مُبررة وما يتبعها، وصولا إلى المراكز القيادية العليا والتنفع بخيراتها، وتوزيع ما لا يُوزع ولا يُهدى ولا يُباع، على ذوي المُفسد وأسرته وجماعته وجيرانه وقبيلته، وجيران القبيلة وقبائل الجيران، ليغطي شره الزمان والمكان، ليشمل القتال على المنصب والكذب والتزييف وتغيير الحقائق، للحفاظ على الكرسي والبقاء عليه قدر الإمكان رغم وجود الكفاءات، واستغلاله ومُحاربة كل ذي نفع وتحجيمه، والتدليس على صاحب القرار وتغيير بوصلة اتجاهاته، إيجابا نحو المُفسد، وسلبا لما سواه.

سيماهم في وجوههم، وتعرفهم بلحن القول، تجتمع هذه العوارض وعوارض أخرى تحت: من أين لك هذا؟، وكيف تم لك البقاء؟ ليتم اكتشافه بسهولة طالما هناك جهاز رقابي «تشخيصي» شديد الحساسية والتقدم «Advanced»، وصولا إلى العلاج الشافي الذي يشمل الاستئصال الجراحي، وكذلك الكيّ الكيماوي والحرق الإشعاعي والعزل النفسي والمُجتمعي، وفوق هذا كله فإنه بالإمكان الوقاية من الفساد بتعقب مسبباته، وكذلك خلال الكشف المبكر.

العجيب واللافت للنظر، أن الجميع -بلا استثناء- يمقت الفساد ويلعن الفاسدين والمُفسدين، وكأننا نعيش في كوكب الفضيلة، خاصة ممن تنطبق عليه كل أو بعض سمات الفساد.

يذكرني موقف من يسب الفساد بحكاية ذلك الرجل الحكيم الذي سمع صاحبه يلعن «الفسل»، والفسل مُصطلح محلي من «الفسالة»، وتعني «قلة الخاتمة» وربما «النذالة والخسة»، كما ورد في معجم بن شوصان اللغوي، فقال له الحكيم، استغفر الله يا رجل، فقال اللعان مُتعجبا، لماذا يا حكيم تطلب مني هكذا؟ فقال لأنك تلعن «عمرك» يعنى نفسك، بمعنى أطلقت اللعنة على نفسك كناية عن كونه، أي صاحبه، «فسلا» في الأصل.

يلجأ الفاسد في العادة إلى حيل شعورية دفاعية مُتعددة، ولعل أهمها التكوين العكسي «Reaction Formation»، والتي يتخذ فيها الشخص أسلوبا مغايرا لما بداخله لخفض درجة القلق لديه، خوفا من اكتشاف وافتضاح أمره.

الفساد سرطان اجتماعي يشل حركة التنمية، ويدمر عجلة التقدم، ويجعل من قنوات الازدهار مياها راكدة أسنة، خبيثة الرائحة وعلقمية الطعم.

والمُفسد أشد من «نافخ الكير»، فرائحته أشد نتانة ويحرق الأخضر واليابس، بمساحة تعادل فساده.

الفساد ظاهرة سلوكية مرضية، كل نفس بشرية جُبلت عليها كغريزة فطرية «Instinct»، لا تلبث إلا وتصبح سلوكا «مُبررا» لدى البعض «الفاسد»، والبعض الآخر يُهذب هذه الغريزة ليصبح عضوا سليما معافى في النسيج الاجتماعي، وهذا سر طبخة الفساد، والذي يمكن فهمه وتحديد الميكانيزمات التي تقف وراءه، ليسهل علاجه واستئصاله.

من هنا، أتي الأمر الملكي الكريم والحكيم والصارم، بضم «هيئة الرقابة والتحقيق» و«المباحث الإدارية» إلى «الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد»، وتعديل اسمها ليكون «هيئة الرقابة ومكافحة الفساد»، وإنشاء وحدة تحقيق وادعاء جنائي في الهيئة الجديدة، لمحاربة هذه الظاهرة والقضاء عليها.

قاتل الله الفساد والمفسدين، ودام عزك يا وطن، بسواعد لا تعرف للفساد طريقا.