منذ البداية يجب أن نعلم أن الفن الذي لا يعتمد على المشاعر ليس فنا على الإطلاق، فالمشاعر هي البداية والنهاية، بينما المهارة والهدف والتقنية تأتي في الوسط، وعليه يمكننا القول هنا: إن المهارة جزء من الفن، ولكن الفن يمثل شيئا يتجاوز المهارة. وحين أقول: إن تحمل المسؤولية والتصرف كإنسان بالغ راشد هو للأسف فن مفقود، أعني المهارات كما أعني المشاعر التي تحتضنها وتغلفها.

نعم اليوم نرى أن كثيرين من جيل الألفية ممّن ينجزون أشياء عظيمة، ولكن بالمقابل نجد أن هنالك أعدادا أكبر ممن ليسوا كذلك، إن السمة الطاغية أو الصورة النمطية لهذا الجيل هي الكسل وعدم وجود طموحات، إنه يفكر في النجاح السريع والأرباح الطائلة ليس من أجل البناء والتطوير والارتقاء بالعالم، بل من أجل تحقيق أهدافه والإنفاق على ذاته وما تحتويه من رغبات.

إن عدنا إلى جيلي، أو حتى الجيل الذي تلاه، كانت لدينا توقعات، كان من المتوقع أن نذهب إلى المدرسة، نذاكر وننجح معتمدين على أنفسنا دون اختزالات في المقرر أو تعديلات في طرق القياس والتقويم أو حتى التدريس، وكان من المتوقع أن نحصل على وظيفة، ومن ثم العمل على تقديم شيء للمجتمع أو الوطن أو حتى الإنسانية.

نحن للأسف لم نربِّ أبناءنا على نفس المعاني أو الأهداف، لقد ربيناهم بناء على مبدأ الاستحقاق. أكبر مشكلة تواجهنا اليوم هي أن الناس لم تعد لديهم أحلام ذات قيمة، بمعنى أننا لا نربي أطفالا يعتقدون بأنهم سيبنون شيئا ذا قيمة في هذا العالم، حتى بناء الأسرة وتربية الأطفال لم يعودا حلما، وهو حلم بناء.

لقد دُمرت مبادئ الأسرة بكل التغييرات التي طرأت على المجتمعات بفعل الانفتاح على العالم ودخول التكنولوجيا التي تم استخدامها استخداما سلبيا، وكان النِّتاج تفككا في نسيج الأسرة، وإذا لم يكن لديهم حلم البناء، فما الذي لديهم؟ كلّ ما لديهم هو «سأجني المال وأنفقه على نفسي»، هذا ما لديهم.

لقد ربينا الأبناء على توقع مردود على كل فعل يقومون به، «كان ياما كان في قديم الزمان، قبل هذا الزمان»، لم تكن هنالك تقنيات تتحكم في أسلوب حياتنا اليومي أو تعليمات من المدارس السيكولوجية تحدّ من تصرفاتنا مع من يسيء التصرف من أبنائنا، بل إننا لم نسمع بعد عن مفهوم «تقدير الذات»! فإذا تصرف أحدنا بشكل سخيف أو خاطئ كنا ننبه إلى ذلك ونعاقب أيضا، بينما إذا قام طفل اليوم بنفس التصرف، فمن المتوقع أن نربت على كتفه ونطمئنه ونحاول تهدئته، ممنوع عليك حتى أن توبخه حتى لا تؤثر على مستوى تقدير الذات لديه، ولهذا وبدلا من تعليم أبنائنا المسؤولية انشغلنا بمنسوب تقدير الذات لديهم، إلى درجة أننا جعلناهم يركزون تماما على أنفسهم وينسون أن غيرهم يعيشون على هذه الأرض معهم. لقد أجريت دراسة على من كانوا على قائمة الإعدام، فوجد أن تقدير الذات كان عاليا جدا لديهم، أما ما كان منخفضا فهو الحس الأخلاقي.

ونحن بدلا من أن نقدم لأبنائنا الحس بأن لديهم هدفا.. مهمة في هذه الحياة، وأن عليهم العطاء والمشاركة، قمنا بتزويدهم بمفهوم الاستحقاق، كل شيء سوف يأتيكم، وما نريده منكم هو أن تحصلوا عليه، ونقضي أيامنا في خوف، بل في رعب من أنه في مكان ما أو في مرحلة ما سوف يتعرضون للإهانة، ويهتز مفهوم تقدير الذات لديهم.

البشر هم البشر، والبشر يرتقون إلى مستوى توقعاتنا، مثلا تجد أن بعض المعلمين يدخلون في مواجهات مع طلابهم قد تصل إلى الصراخ أو حتى الاعتداء الجسدي، في حين أن معلمين آخرين لا يمرون بمثل هذه التجارب أبدا، لماذا؟ السبب هو أنك إن كنت تدخل إلى فصلك بمجموعة من التوقعات، «أتوقع منكم التصرف بهذه الطريقة»، تُقدم منذ البداية بوضوح واحترام والتزام بالتطبيق، سوف يرتقي الطلاب إلى مستوى توقعاتك. وبالمقابل إن لم تكن لديك توقعات فسوف يرتقي الطلاب إلى مستوى «لا شيء»، لذا، كلما زودنا أبناءنا برسالة: «إنكم بحاجة إلى أن تنجزوا.. أن تشاركوا.. أن تعطوا.. أن تبنوا، إنكم بحاجة إلى أن تفعلوا ذلك لأنكم قادرون»، سنجد أنهم سيرتقون إلى مستوى توقعاتنا.

لقد أعطانا الله -سبحانه- القدرة على المحاولة والتطوير والتعلم من أخطائنا وبناء نجاحاتنا عليها، فإن بدأنا معهم بـ«أتوقع منكم» فنحن نزودهم ليس فقط بمهارات، بل بفن البناء والتفوق الذي هو الأساس، حيث تكمن المشاعر التي تحرك وترصد وتتفاعل لتصل بهم إلى اتخاذ القرارات السليمة، من تحمل المسؤولية إلى التصرف بحكمة إنسان بالغ راشد يكون بمثابة إضافة إلى مجتمعه لا عبئا عليه.