لما بعث الله رسله بالهدى ودين الحق، قبله من أراد الله به خيرا، ورده أصحاب الكبر والشر، وأوردوا مقالات وشبهات تدل على فساد قولهم، وإفلاس حجتهم.

فأول الرسل هو نوح عليه السلام دعا قومه ليلا ونهارا، سرا وجهارا، متوخيا الحكمة والموعظة الحسنة، والصبر الطويل، ولكن من غلبت عليه الشقاوة عارض دعوته، فما دليلهم وما حجتهم؟.

قالوا له كما ذكر الله عنهم (ما نراك إلا بشرا مثلنا وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي وما نرى لكم علينا من فضل بل نظنكم كاذبين)، فتأمل قولهم هذا، تجده لا حجة فيه، بل هو حجة عليهم، فقولهم (ما نراك إلا بشرا مثلنا)، هل كون الحق جاء على يد بشر لا يقبل؟، وقولهم (وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا) يدل على تيههم وكبرهم، فالحق يُعرَف بدليله، لا بمن اتبعه، ثم دعواهم أن من خالفهم واتبع الرسل يُعَد من الأراذل، لم يذكروا بينّة عليها، فإن أرادوا بـ(الأراذل) الفقراء، فالفقر ليس عيباً، وإن أرادوا بـ(الأراذل) كونهم لم يطيعوا سادتهم وكبراءهم لما رأوا ضلالهم، فهذا تزكية لهم، وأنهم ليسوا همجاً رعاعا، بل أصحاب عقول سليمة، فالذين آمنوا بالله وملائكته ورسله وكتبه واليوم الآخر وقدر الله، ليسوا أراذل، بل الأراذل هم الذين خالفوا الرسل، واتبعوا أهواءهم، فهم أحق بهذا الوصف وأهله، وقولهم (بادي الرأي) أي: آمنوا من بداية ما سمعوا الرسل، لم يشاوروا ويتريثوا، وهذا ليس عيبا فيهم، بل هو منقبة لهم، فالحق واضح بيّن يجب قبوله، والبدار باتباعه، ولا حاجة للتروي والمشاورة، فليس هو من الأمور المشتبهة، وإذا تبيّن الحق، فماذا بعد الحق إلا الضلال، وقولهم (وما نرى لكم علينا من فضل) ما علاقة ذلك بقبول الحق، الحق يُقبَل من الفاضل ومن المفضول، وممن له فضل عليك، وممن لا فضل له عليك، الحق قيمة عظمى، يُقبَل من الكبير والصغير، والصديق والعدو، لا لأن فلاناً قاله، بل لأنه حق.

لكن أهل الكبر يبطرون الحق، ويحتقرون الخلق، وقد قال الله تعالى: (سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق) وقال تعالى: (كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار)، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم «أنه لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر»، وبين أن الكبر هو: بَطَرُ الحق وغمط الناس.

ومعنى بطر الحق: الاستنكاف عن قبوله ورده، كما يفعل ذلك المتعالمون والفاشلون من ضعفاء العقول، ومعنى: غمط الناس، أي احتقارهم.

ومن العجب أن أدلة أهل الباطل هي أدلة على فساد دعواهم، وإن شئت مثالا على ذلك من كتاب الله فاقرأ قوله تعالى عن قوم لوط (فما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون) تجد أن قوم لوط يستدلون على إخراجهم آل لوط بقولهم (إنهم أناس يتطهرون) وهذا - كما ترى- تزكية لآل لوط، وإدانة لمنتقدهم، فالطهارة ليست عيباً، بل هي فضيلة ومنقبة.

فانظر كيف استدلوا بما هو دليل عليهم.

ومفهوم قولهم: شهادتهم على أنفسهم أنهم ليسوا من أهل الطهارة، وإنما هم من أهل الخبث والقذارات.

فأهل الفساد في كل زمان ومكان لا يقبلون إلا من هو على شاكلتهم، ممن يشاركهم في فسادهم، ويضيقون ذرعاً بأهل التدين الصادق والعدالة والعفة والنزاهة، ومانقموا منهم إلا (إنهم أناس يتطهرون).