ارغم حرص الدستور الأمريكي على وضع نطاق لمحاسبة المسؤوليين التنفيذيين ومنهم الرئيس، مساءلته ثم محاكمته وعزله، إلا أن تفسير هذه المواد الدستورية التي يصفها البعض بالرمادية، خلقت مساحات واسعة من الجدل والخلاف حول معنى وتفسير هذه المواد الدستورية، وكان من نتيجة ذلك محاكمة 3 رؤساء فقط في التاريخ الأمريكي، ولم يعزل منهم أحد نتيجة للخلاف حول التفسير القانوني لتلك المواد الدستورية. وبدأت منذ أسابيع عملية سياسية وقانونية تهدف لعزل الرئيس الأمريكي دونالد ترمب من منصبه، حيث يقول الحزب الديمقراطي الأمريكي إن الرئيس ترمب ارتكب مخالفات دستورية تستحق العزل، بينما يفسرها الجمهوريون الذين ينتمي لهم ترمب، بأن الرئيس لم يرتكب أي مخالفة قانونية تستحق العزل.

ثلاث حالات للعزل

حدد الدستور الأمريكي الصادر عام 1787 مسألة عزل رئيس الدولة في ثلاث حالات بنص المادة الثانية وهي: الخيانة وعدم الولاء، والرشوة، وارتكاب الجنح أو الجرائم الكبرى، ويحق لمجلس النواب الذي يحظى فيه الديمقراطيون بالأغلبية توجيه الاتهامات فقط «النيابة العامة»، بينما مجلس الشيوخ الذي يسيطر عليه الجمهوريون هو من يتخذ قرار العزل أو البراءة، فمجلس النواب له سلطة «اتهام المسؤولين التنفيذيين» ولهذا عملية العزل تبدأ من مجلس النواب بينما ينص الدستور على أن «لمجلس الشيوخ وحده سلطة إجراء محاكمة في جميع تهم المسؤولين».

ويترأس المحاكمة جون روبرتس، رئيس المحكمة العليا، وهو أكبر قاض في النظام القضائي الأمريكي، كما يؤدي أعضاء مجلس الشيوخ اليمين الدستوري، ليكونوا محايدين في المحاكمة، ويستمعوا إلى الدفاع والحجج القانونية طوال ساعات المحاكمة، وبذلك يتحول أعضاء مجلس الشيوخ إلى «محلفيين»، وتقضي الإجراءت في مجلس الشيوخ بالسماح للفريقين الجمهوري والديمقراطي بعرض وجهة نظر كل حزب خلال مرافعات تستمر 24 ساعة موزعة على 3 أيام، وقد استنفد الديمقراطيون الساعات الأربع والعشرون خلال 3 أيام، بينما ترافع الجمهوريون 3 ساعات فقط لأن أول يوم لمرافعات الجمهوريين كان «السبت» وهو يوم عطلة رسمية تقل فيه نسب مشاهدة التلفزيون، وهو أمر من اختصاص قاضي المحكمة العليا، حيث يستطيع أن يرحل بعض الوقت من يوم لآخر، وبعد أن تنتهي الأيام الستة للمرافعات، يمكن لكل فريق طلب مزيد من الشهود أو عرض أدلة جديدة، إلا أنه في الحالة الراهنة يبدو واضحاً رفض الجمهوريين أي شهادات جديدة رغم سعي الحزب الديمقراطي إلى عقد محاكمة طويلة، واستدعاء شهود وموظفين فيدراليين عملوا مع ترمب، ومنهم جون بولتون مستشار الأمن القومي الأمريكي السابق، والذي يقول الديمقراطيون إنه كان يعارض ضغط ترمب على الرئيس الأوكراني فولاديمير زيلينسكي عندما اتصل به ترمب واشترط عليه إجراء تحقيق في فساد هنتر نجل جو بايدن نائب الرئيس أوباما، والمرشح المحتمل لمنافسة ترمب في الانتخابات الرئاسية القادمة، وبعد حسم قضية الشهود، وعرض الأدلة بالصوت والصورة والشهادات التي قدمها مسؤولون سابقون، سيصوت مجلس الشيوخ على ما إذا كانت هناك حاجة إلى مزيد من الأدلة أو الشهود.

خيانة الديمقراطية

ترتكز الحجج والبراهين القانونية التي قدمها فريق المرافعة من الديمقراطيين الذي يتكون من 7 أعضاء برئاسة السيناتور أدم شيف رئيس لجنة المخابرات بمجلس النواب، على أن الرئيس ترمب خان الدستور الأمريكي، ويشكل خطرا على النظام السياسي والديمقراطية الأمريكية عندما طلب مساعدة دولة أجنبية ضد مواطن أمريكي هو جو بايدن، أحد المرشحين المحتملين عن الحزب الديمقراطي للانتخابات الرئاسية التي ستجرى في نوفمبر القادم، حيث اتصل ترامب بنظيره الأوكراني في 25 يوليو الماضي، وأن الرئيس أوقف منح أوكرانيا 397 مليون دولار كمساعدات، وأن هذا يعني طلب الرئيس مساعدة خارجية للتغلب على غريمه السياسي جو بايدن.

خلاف حول الأدلة

والحقيقة أن ما شهدته المحاكمة حتى يومنا هذا هو خلاف حاد بين الحزبين المتنافسين حول التهم التي يواجهها ترمب، وهي طلب المساعدة الخارجية في قضية انتخابية، وتعطيل عمل الكونجرس بمنع بعض الشهود من الحضور للكونجرس والإدلاء بشهاداتهم حول طبيعة مكالمة ترمب مع الرئيس الأوكراني، وقال آدم شيف «إن جرائم ترمب تكفي لعزله، وإن الشعب الأمريكي يريد أن يمنح مجلس الشيوخ فرصة محاكمة عادلة للرئيس، وقدم الديمقراطيون مذكرة من مؤيدي محاكمة ترمب، تتضمن اتهامات للرئيس باستغلال السلطات الرئاسية للضغط على شريك أجنبي ضعيف للتدخل في انتخاباتنا لصالحه»، وأضاف فريق الدفاع: «بذلك، يكون ترامب قد شكل خطرا على أمننا القومي وعلى نظام الحكم الديمقراطي، كما خطط للتستر على ممارساته، وهو أمر غير مسبوق في تاريخ جمهوريتنا» واتهم تشاك شومر، زعيم الأقلية الديمقراطية بمجلس الشيوخ، الجمهوريين بمحاولة التستر على أدلة وشهود يمكن أن يقدموا الحقيقة للشعب الأمريكي، وقال «إن زعيم الأغلبية في مجلس الشيوخ ميتش ماكونيل قرر إجراء محاكمة ترمب ليلا حتى لا يتابعها الأمريكيون، وأن ترمب أساء استخدام السلطة وهذه جريمة ضد الديمقراطية»، كما تلقى فريق ترمب القانوني اتهامات من رئيسة مجلس النواب الأمريكي نانسي بيلوسي، التي قالت إن خطة ماكونيل لعقد محاكمة برلمانية تؤكد أنه اختار التستر لصالح ترمب بدلا من الوفاء بيمينه الدستورية، وأن ترمب عمل على تقويض الأمن القومي الأمريكي، كما عرّض سلامة الانتخابات للخطر، وانتهك الدستور لمصلحته الشخصية والسياسية. على الجانب الآخر قدم الفريق القانوني لترمب مذكرته القانونية المؤلفة من 171 صفحة للاعتراض على اتهامه، وقال الفريق الجمهوري «إن ترمب ضحية عملية تلاعب بدافع سياسي، وإنه لم يرتكب أي مخالفة، وإن الحزب الديمقراطي لجأ في مجلس النواب إلى مادتين من مواد العزل، لا يمكن الأخذ بهما جنائيا، وإن التهمتين لا ترقيان إلى الحد الأدنى من المخالفات اللازمة لعزل الرئيس من منصبه».

التصويت على أساس حزبي

يلعب الانتماء الحزبي دوراً كبيراً في تفسير مواد عزل الرئيس، وتحتاج إدانة ترمب وعزله إلى تأييد ثلثي أعضاء مجلس الشيوخ البالغ عددهم 100 عضو، أي 67 عضوا، وعدد الديمقراطيين في مجلس الشيوخ 47 عضوا فقط، بينما الجمهوريون 53 عضواً، وهو ما يعني أن عزل ترمب يحتاج لتمرد 20 عضواً جمهورياً على الرئيس ترمب، وقد نجح الديمقراطيون برئاسة نانسي بيلوسي رئيس مجلس النواب بتمرير قرار الاتهام في مجلس النواب الذي يتمتعون فيه بأغلبية 235 نائبا مقابل 197 نائبا فقط للجمهوريين.