يتفرّد النظام المعرفي في الفكر الإسلامي -خلافا للفكر الغربي- بخصائص فريدة تميزه عن أي فكر آخر، فقد استطاعت المنظومة المعرفية لهذا الفكر أن تجمع بين الوحي والعقل في مزيج غير متعارض، كون المرجعية لهما واحدة. خلافا لما يراه الفيلسوف إيمانويل كانط، بأنه لا يمكن تأسيس الإيمان على الإدراك العقلي، وكما يؤكد فرح أنطون على أن العلم يجب أن يوضع في دائرة العقل، لأن قواعده مبنية على المشاهدة والتجربة، أما الدين فمكانه القلب لأنه مبني على التسليم، ومتى قام الدين على العقل أصبح علما لا دينا.

فإذا كانت العقلانية تعني العقل كسلطة وكمصدر للمعرفة ومنهج في التفكير، فإن مقالنا اليوم سيطرح تساؤلا عن مكانة العقل عند الفقهاء وفي عالم الفقه الإسلامي، وطبيعة العلاقة الجدلية بين العقل والنقل. فهل النقل يقبل بالعقل إلى جانبه في الفقه الإسلامي، كسلطة وكمصدر للتفكير أم لا؟

والدافع إلى هذا التساؤل هو شيوع فكرة خاطئة تضع الفقه الإسلامي في مقابل العقلانية، وتصور الفقهاء بصفتهم خصوما ألداء للعقل، وهي طبعا دعوى غير منطقية، وتعكس جهلا كبيرا بطبيعة علم الفقه.

من المتعارف عليه، أن القياس الفقهي هو مصدر مهم من مصادر استنباط الأحكام بعد الكتاب والسنة، وعملية استنباط الحكم الشرعي من خلال إخضاعه لعملية القياس، هي عملية ذات صبغة عقلانية، تستوجب -بالضرورة- حضور العقل، حيث مع تعطيل العقل يتعذر استنباط حكم مجهول من حكم معلوم يشتركان في علة واحدة، وتحديد العلة الموجبة للحكم بهذه الطريقة الدقيقة هي عملية عقلية صرفة، تتطلب تفكيرا ناقدا وجهدا تحليليا كبيرا، حتى مع استنادها إلى النص.

إن العلة التي يشترك فيها حكم معلوم مع حكم مجهول، أعطت للقياس الفقهي بنية عقلانية حقيقية، مكّنت العقلانية الفقهية من التكيف مع كل المستحدثات والوقائع المستجدة، حتى صار البحث في العلة ومسالكها يأخذ طابعا فلسفيا وعلميا منضبطا، استطاع أن يحقق الاستمرارية والثبات مع مر العصور.

نستطيع القول إن الأحكام المستنبطة قياسا غالبها مبنيّ على أساس عقلاني، إذ العقل بفطرته قادر على تتبع المصالح واستقراء الحالات وإظهار عللها والمقاصد التي شرعت لها، ويؤكد على وجود التعليل العقلاني المنطلق من النصوص الشرعية التي تدور حول قانون ثابت، يصب في مصلحة مقاصد الشريعة، وهو قانون مراعاة المصالح ودفع المفاسد.

يلخص الفقيه الأندلسي الشهير ابن رشد العلاقة الوطيدة بين القياس والعقل قائلا: «إن الطرق التي منها تلقيت الأحكام عن النبي بالجنس ثلاثة: إما لفظ وإما فعل وإما إقرار. وأما ما سكت عن الشارع من الأحكام، فقال الجمهور: إن طرق الوقوف عليها هو القياس». ويضيف ابن رشد قائلا عن القياس: «ودليل العقل يشهد بثبوته، ذلك أن الوقائع بين أشخاص الأناسي غير متناهية، والنصوص والأفعال والإقرارات متناهية، ومحال أن يقابل ما لا يتناهى بما يتناهى».

ومن خلال إعمال المجتهد لتفكيره، واستعانته بآلة القياس المنطقية، يستطيع أن يميز جميع الأوصاف المناسبة لجميع أحكام العادات المتجددة والقضايا المستجدة، فلقد ارتسمت صورة منطقية في العقول وفق قاعدة عامة، تقوم أساسا على فكرة التداخل بين العام والخاص، تنتهي من خلال تعيين علة أي حكم، والتي تتمحور حول تحقيق مقاصد الشريعة، ولهذا قال الشاطبي: «فإنا وجدنا الشارع قاصدا لمصالح العباد. والأحكام العادية تدور حيثما دار، فترى الشيء الواحد يمنع في حال لا تكون فيه مصلحة، فإذا كان فيه مصلحة جاز. وأكثر ما علل فيها بالمناسب الذي إذا عرض على العقول تلقته بالقبول، ففهمنا من ذلك أن الشارع قصد فيها اتباع المعاني لا الوقوف على النصوص بخلاف باب العبادات».

يتضح لنا أهمية استعمال العقل وحجّيته في الفقه الإسلامي، من خلال حجية القياس نصا وعقلا، ونظرة شاملة على نشاط الفقهاء الفكري يتبين لنا مقدار تعمقهم الكبير في دراسة الشريعة، وهو -بلا شك- شاهد على تقدمهم العقلي والعلمي، بدليل أن مناهجهم الفكرية ما زالت تقدم الحلول العملية لقضايا العصر اليوم.