غالباً ما يهمس أحدهم متعجباً بسؤال: مسرح، أغاني، فنون... هل هي سر التقدم؟ وها هي دول كثيرة متخلفة توجد فيها هذه الفنون ولم تحسب ضمن الدول المتقدمة؟ والإجابة الغالبة - لمن يريد الإجابة عن هذه الفئة المستنكرة - تنشغل بمفاهيم عليا عن الفن وفلسفته، متناسين أن السؤال من قبل هذه الفئة يذكرنا بصراع الحضارة ما بين بادية ومدينة (على جميع المستويات) والذي لم يحسم لصالح الحضارة حتى الآن في أدنى مستوياته اليومية، فحتى هذه اللحظة ما زالت الغالبية تسأل الأقلية: ما فائدة الطاولات والكراسي للأكل، ثم لماذا هذا التعقيد غير المبرر في وجود الشوكة والملعقة والمناديل؟ وقد يتطرف أحدهم في هذه المسألة فيرى في الأكل بالملعقة والشوكة من التشبه بالكفار ما فيه... الخ، كل هذا الهجوم اللفظي بهذا النوع من الأسئلة في سبيل الإبقاء على الطريقة البدائية في الأكل باليد لتطرح الوجبات بأكياس كبرى من الأرز واللحم ثم تسكب في النفايات بدم بارد، كل هذا ترفضه حضارة (الشوكة والملعقة)، إذاً فالطريق إلى الشوكة والملعقة هو طريقنا لنعيش الأكل كحالة حضارية، لا كحالة بدائية، سنعرف أن إكرام الضيوف له مخرجات حضارية تتكئ على تنوع (البوفية المفتوح) أكثر مما تتكئ على هدر قطيع من الأغنام يتجاوز العشرين والثلاثين رأسا مع ما يتجاوز ربع طن من الأرز الفاخر يذهب قرابة ثلثيه إلى مكب النفايات، وإن أراد تحويله للجمعيات الخيرية فالأيدي التي لا تعرف ثقافة (الشوكة والملعقة) قد عكرته برجيع أصابعها وريقها بما لا تقبله معايير النظافة الحديثة.

ما دخل الشوكة والملعقة في سؤال (هل المسرح والأغاني والفنون هي سر التقدم؟ وكثير من الدول المتخلفة يوجد فيها مسرح وفنون ولم نرهم متقدمين؟) طبعاً لم تتم الإجابة عن هذا السؤال لأن الإجابة عن أهمية المسرح والأغاني تقتضي فهم ثقافة ومعنى (الفنون السبعة)، وكل هذا يحتاج مستوى عقلياً مؤهلاً يدرك أبسط أساليب الحضارة الراقية في الأكل بالملعقة كحد أدنى، وما يترتب على هذا السلوك من استغناء عن ثقافة الصحون العريضة التي يسكب فيها الرز ويحضر للبشر كما يسكب الشعير للإبل، متجاهلين ثقافة (البوفية المفتوح) الأنظف والأكثر تنوعاً بحسب احتياجات الضيوف المختلفة على مستوى الصحة والذوق.

هل المسرح والأغاني هي سر التقدم؟ ليست سر التقدم، لكنها مؤشر حقيقي على هذا التقدم، فسادة الإنتاج المسرحي والغنائي في العالم حالياً هم سادة القوة العالمية من الصين شرقاً حتى أمريكا غرباً، فحتى الهند عبر فنها السابع في (بوليوود) أثبتت قوتها الحضارية القادمة.

من يسأل مستنكراً عن فائدة المسرح والغناء والفنون عموماً كمؤشر أو معيار حضاري، ويطرح هذا السؤال بدلالة استنكارية، فهو قطعاً ممن يستنكرون استخدام الشوكة والملعقة في الأكل، وسيملأ لك المجلدات في تبرير الأكل باليد، والأزمة الأكثر تعقيداً عندما يربط الامتناع عن الأكل بالشوكة والملعقة بمدى أصالته وحفاظه على الدين والتقاليد.

لن أنجر في هذا المقال للحديث عن الفنون وفلسفتها، فهذا المقال الصغير سيكون (ربما) مفتاحا للحديث عن الفنون وأهميتها في الحضارة الإنسانية بشكل يتناسب مع ثقافة أهلي وناسي، الذين أحدثهم وأنا أكثر (بداوة) منهم، فقد أصبحت عندما شارفت على الخمسين من الجيل القديم الذي أدرك ذبح الذبيحة بيديه، وتقطيعها لطرحها في قدور الطبخ أو (حفرة الحنيذ) وتقديمها للضيوف بتراحيب فيها من رفع الصوت ما يشير إلى عطش قديم لتقاليد الأسلاف التي كان يقاس فيها الرجل بعدد من يستطيع إشباعهم في أيام الجوع (الصعبة).

كتبت لوالدتي اعتذارا في عيد الأضحى الماضي، نشرته كحالة واتساب ونصه: (في هذا اليوم الأحد الموافق العاشر من ذي الحجة لعام 1440هـ يعلن مجاهد اعتزاله ذبح أضحية العيد وسلخها، وقد بدأها منذ حياة والده عام 1991م/1410هـ كابن قبيلة تقليدي واعتزل هذا العام 2019م/1440هـ بعد ذبحه لأضحية والدته لهذا العيد كآخر ذبيحة بيديه، معتذراً عن تأخره في إعلان الاعتزال الذي سبقه إليه كثير من الإخوة.... يشكر كل من سانده ووقف معه خلال مسيرته الطويلة مع والديه، راجياً عفو والديه عن الكلى والكبد التي كان يأكلها نيئة قبل طبخها خلال فترة زادت عن ربع قرن «30 رأسا» من الذبح والسلخ) - أكتب هذا الشأن الخاص كي لا يزايد على بداوتي وقبليتي شاب في سن أبنائي- لكني تعلمت الأكل بالشوكة والملعقة كما تعلمت القراءة والكتابة، ولم أرض أن أبقى على أميتي في (الأكل) فلكل شيء أمية وعلم، فمن لا يعرف التعامل مع الحاسب فهو أمي في التقنية، ومن لا يعرف التعامل مع الفراغ في جدران منزله فهو أمي في الديكور، وهكذا في كل شيء نعيشه أمية ما، والحياة مشوار تعلم، والعلم يضيع بين إثنين (الحياء والكبرياء)، ولا حياء في العلم والحضارة، ولا كبرياء في طلب الأفضل والأجمل.

هل يعقل أن يكون هناك مقال في صفحة الرأي يدعو للأكل بالشوكة والملعقة؟ والإجابة نعم إذا كان فيها بعض الحلول الجذرية لإشكالات دولية تمثلها منظمة الفاو (منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة) التي تقود الجهود الدولية للقضاء على الجوع في العالم، ومن أركان ذلك اعتبار الهدر الغذائي في أي دولة من القضايا المخلة بما يسمى (التنمية البشرية)، فإلى أين نحن سائرون بعاداتنا الغذائية التي ظهرت مع النفط دون وعي غذائي حضاري كافٍ.