شاء العالم أم لم يشأ -بقضّه و قضيضه، ويساريه ومدعي المثالية- النظام العالمي ليس عادلا، بل القرارات الدولية تتحكم فيها 5 دول، هي الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن، والتي تمتلك حق الفيتو، وما يجمع هذه الدول أنها تملك سلاحا نوويا وقوة عسكرية، إضافة إلى أشياء أخرى، وهذا يعطي مثالا واضحا على صدق المدرسة الواقعية في نهاية اليوم. ما يحدد مكانة الدول وقرارات العالم هي القوة بكل أنواعها، وليست المُثل والخطابات.

لست بصدد شرح سبب عدم حصول كل الدول النووية على مقعد دائم بمجلس الأمن، لكن بما أنني أنتمي إلى المدرسة الواقعية في السياسة، يجب أخذ الأمور بواقعية. هذه الدول الـ5 تتحكم في العالم، وأنا جزء من هذا العالم، فيجب أن أتعامل معها بنوع من الحرص والتركيز والعلاقة الخاصة.

لا أخفي سرا -وملاحظ من كتاباتي شخصيا- أنني أتطلع إلى أداء أفضل للسفارات السعودية في الخارج، ولأسباب كثيرة ذكرتها في أكثر من مقال، لكن الواقعية تفرض علينا «أن ما لا يدرك جله لا يترك كله».

«الود ودي» أن يكون أداء كل السفارات مميزا و فوق العادة، لكن -للأسف- هذا هو الحال. لذلك على الأقل التركيز على الأهم، وهي الدول الـ5 الكبرى «أمريكا، الصين، روسيا، فرنسا، بريطانيا».

سأبدأ بفرنسا، لأنه -حسب علمي- لا يوجد سفير لنا الآن. أهمية فرنسا ليست فقط في العلاقة مع الفرنسيين، هي دولة لها باعها السياسي والاستعماري وأيضا الاقتصادي. الفرنسيون -بلا شك- أحد أهم اللاعبين في الاتحاد الأوروبي مع ألمانيا. هما من يتحكمان في غالب قرارات الاتحاد الأوروبي.

أيّا كان السفير القادم، عليه مسؤولية كبرى، ويجب أن يكون شعلة من النشاط والدهاء. أعرف الفرنسيين جيدا، فليس من السهولة التعامل معهم، لكن فيهم مميزات خاصة، يجب أن تعرف مفاتيحهم للنجاح معهم، والعلاقة القديمة معهم لم تعد تصلح للوقت الحالي، في ظل تقلب المزاج الحالي.

الصين دولة شرقية، وشريك اقتصادي كبير جدا، والمصالح الاقتصادية متشعبة، والشركات السعودية تقوم بدور فعال، خصوصا الكبرى منها مثل أرامكو وسابك، وأيضا هناك تعاون عسكري، وهي أقل صداعا فيما يتعلق بالجماعات غير الحكومية كما الغرب، ولا تحب التدخل في شؤون الدول، فهي بطبيعتها دولة محافظة، لكن هل حركة سفارتنا ونشاطها بالحجم المأمول؟

وظائف السفارة الـ3 الأكثر أهمية هي: العلاقات مع البلد المضيف، ورعاية الرعايا السعوديين والدبلوماسية العامة والالتقاء بالشرائح كافة، وتحسين صورة الدولة إعلاميا وجماهيريا في الدولة المضيفة.

السفارة في روسيا، ربما العلاقات الروسية السعودية تحسّنت في الفترات الأخيرة، وهناك التنسيق الدائم بين البلدين فيما يخص ملف الطاقة، لكن الملاحظ في المبادرات تأتي من جهات أخرى، مثل المجالس السعودية الروسية، ومن قيادة البلدين، وكما الصين وروسيا، الدفع دائما ما يكون من القيادة العليا.

أعرف أن السفارات غالبا لا تصنع سياسات، لكن نريدها أن تكون عاملا محفزا نشطا، مليئا بالحركة والطاقة، خصوصا أن الضغوط على السفارة في البلدين أقل. فالجماعات اللاحكومية أقل حدة في النقد والتدخل، ودائما ما نقول في مقالاتنا، نريد أناسا يصلون الليل بالنهار في خدمة البلد، وليسوا منكفئين على أنفسهم في مباني السفارات، فهذا تكليف وليس تشريفا ومصالح وطن!.

بالنسبة لبريطانيا، وما أدراك ما بريطانيا، كتبت قبل أسابيع قليلة مقال «الدهاء والمكر وبعض الخبث الإنجليزي في السياسة»، وأعتقد أن الآن هو الوقت المناسب لتعزيز الشراكة مع بريطانيا في المجالات كافة، خصوصا بعد البريكست. في البدء يجب الاعتراف بشيء، لا أتعاطف مع سفراء كما أتعاطف وأتمنى النجاح لأبناء بندر بن سلطان، ومعروف للجميع أني لا أحب المجاملات ولا التطبيل، خصوصا فيما يتعلق بالسفارات، لكن عندي قناعة أنه لن يحافظ أحد على إرث الأسطورة بندر بن سلطان مثل أبنائه، فمن واجبي كمحب لبندر أن أكون دقيقا ولا أجامل، وأعتقد أن بعض الطاقم المساعد يحتاج إلى زيادة جرعات النشاط أو التغيير. سفارة لندن يجب ألا تكون مكافأة أو واسطة لأي كائن من الموظفين «لأن المعيشة جميلة في لندن»، يجب أن تكون خلية عمل 24 ساعة، على الصعيد السياسي والاقتصادي والإعلامي، والاتصال بشرائح المجتمع البريطاني كافة، من مراكز أبحاث ومراكز فكر وإعلام وجميع الأطياف السياسية.

أبوخالد، الله يعطيه الصحة والعافية، فيه ميزة فريدة، أنه ليس فقط هو الذي يشع، بل من حوله أيضا، كان يحيط نفسه بفريق فعّال ومميز، وكان يجذبهم ويختارهم أو يصنعهم، وفي الوقت نفسه يتعلمون من مدرسته، مثل رحاب مسعود، وعادل الجبير،... إلخ.

بالنسبة لأمريكا، ولا أحتاج ذكر أهمية العلاقة السعودية الأمريكية، وكتبت سابقا عن صعوبة مهمة الأميرة ريما، لعدة أسباب لا داعي لإعادتها، وقرأت لقاء معها مؤخرا، لفت نظري جملتان، «الشراكة بين البلدين بأنها»مؤسساتية وراسخة«،

و»إن أكبر تحدٍ يواجه المملكة اليوم في الولايات المتحدة، هو -للأسف- تغلب الصورة النمطية، وإصدار الأحكام المسبقة حيالها«، ولي تعليق على الجملتين، نعم، مؤسساتية مع مؤسسات الرئاسة والحكومة، لكن على صعيد المؤسسات الأخرى، مثل الكونجرس، حتى بعض من كانوا يحسبون على المملكة بدؤوا يهاجمونها لأسباب كثيرة.

أما المؤسسات الإعلامية، فكثير منها شبه معادية، أما مراكز التفكير والأبحاث فلا يحتاج ذكر هجومهم المستمر.

بخصوص النمطية، أستطيع القول إن كثيرا منهم يعرف كثيرا عن المملكة، خصوصا أنه يذكر التفاصيل الدقيقة في السعودية، ومع ذلك عنده موقف غير مستحب من المملكة، نتيجة تضافر عدة تيارات مجتمعة، مثل اليسار والإخوان واللوبي الإيراني إلخ... و»يد واحدة ما تصفق«، حتى لو كانت الأميرة تقضي ليلها ونهارها في الدفاع عن المملكة. تحتاج إلى فريق يساعدها على الأقل في المستوى المنظور، يليق بمهمة وتعقيدات أمريكا.

أعرف جيدا أن القيادة العليا والوزراء مهتمون بالعلاقة الأمريكية، ولهم دور كبير في نسج السياسة تجاه أمريكا، لكن نريد أن يكون للسفارة دورٌ محفز، إعلاميا وفكريا، والاتصال بكل الشرائح. مرت أكثر من مئة يوم على السفارة، ولا أعلم عن رضا السفيرة عن طاقم السفارة!.

أرجع أقول:»ما لا يدرك كله فلا يترك جله»، إذا كنا محبطين من أداء بعض السفارات حول العالم، فأرجو أن نكون سعداء بمجهود السفارات عند الـ5 الكبار، وأرجو التدقيق جدا في مؤهلات الفريق المعاون للسفير ومؤهلاتهم، فليس هناك وقت أو مكان للمجاملات أو المعارف، أو الواسطات. نتمنى الأفضل والأكفأ، والنخبة والأكثر نشاطا واجتهادا.