ننفق مئات المليارات من أموالنا الوطنية، ونبذل كمًّا من الجهود العظيمة في بناء مؤسسات ومستشفيات وجامعات ومراكز أبحاث مزودة جميعها بمختبرات قيمة، تستهلك كثيرا من ميزانيتنا، بهدف توفير كل ما يتطلبه إجراء الدراسات العلمية والمخبرية من إمكانات، وما تتطلبه الأبحاث من تجارب معملية، لتفرز تلك المراكز منتجات علمية تخدم المعرفة الإنسانية والعلم التطبيقي، تستثمر نتائجها المؤسسات المعنية، أو الشركات المختصة لتكون منتجات متداولة يستفيد منها المجتمع، ليس على مستوى الوطن فحسب، وإنما على مستوى العالم.

ومن جانب آخر، فقد استحوذ التعليم على نصيب غير قليل من ميزانيتنا الوطنية، استنزفت منه الجامعات والدراسات العليا ومراكز الأبحاث والابتعاث الداخلي والخارجي كثيرا.. السؤال: أين المردود المعرفي والتطبيقي لذلك؟! أين المبادرات الوطنية التي تبرر حجم ذلك الإنفاق السخي؟! أين مخرجاتنا المتميزة بتخصصاتها المختلفة؟! ما موقعنا بين الدول المنتجة علميا؟ وما حجم مساهمتنا الإنسانية ومشاركتنا العالمية فيما يتعلق بمخرجاتنا البحثية العلمية والنظرية؟!.

وبملاحظة ما تجريه مراكز الأبحاث العلمية المتميزة في جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية «كاوست» في معاملها ومختبراتها التي تقدر بالملايين، والتي يُستقطب لها الباحثون من شتى أنحاء العالم، لإجراء أبحاثهم لتستفيد منها دولهم وباحثوهم بصورة أو بأخرى، وبمتابعة ندرة وجود المواطن بين تلك الكوادر العاملة أو الدارسة، التساؤل الملح: ماذا استفدنا نحن كوطن وكمواطنين من تلك المعامل والمختبرات الفريدة في نوعها وإمكاناتها؟! وما المنتج العلمي والتطبيقي الذي لمسنا ثماره في معالجة بعض تحدياتنا الوطنية القائمة؟!.

وعلى الصعيد ذاته، وبفضل من الله ثم بفضل قيادة حكيمة حققنا كثيرا من المنجزات، فإنه لدينا عدد من مراكز الأبحاث التي تنافس مراكز عالمية في إمكاناتها الفنية والبشرية، كمركز الأبحاث الملحق بمستشفى الملك فيصل التخصصي، ومثله التابع لمدينة الملك فهد الطبية، وغيره التابع لمدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية، علاوة على مراكز الأبحاث الملحقة بالجامعات والمستشفيات المعروفة من العام والخاص المتميزة، ماذا قدمت لنا جميعها من منتجات طبية أو علمية تم استثمارها إنسانيا ووطنيا؟!

نتطلع ونتابع وننتظر أن يفاجئنا باحثو العالم المتقدم بنتائج أبحاثهم العلمية وثمار مفرزات دراساتهم ومختبراتهم التجريبية في مختلف العلوم وليس في الطب فقط، التساؤل الذي يطرح نفسه: إلى متى نظل في تلك المرحلة المتجمدة التي تنتظر من الآخر إنقاذها؟ إلى متى نستمر عالة على المجتمع المتقدم معرفياً، والذي يحسن استخدام أدواته وإمكاناته ومقدراته؟ إلى متى نعتمد على تلك الدول في معظم متطلبات حياتنا اليومية واستهلاكنا المتنامي؟! إلى متى نتعلم ونبتعث ونستقبل مخرجاتنا، ونعجز عن توظيفها في مواقع مناسبة لهم؟! إلى متى يستأثر الأجنبي بمقدراتنا الثمينة ونحن متفرجون أو منتظرون القبول منه؟! وأخيرا لماذا لا نفاجئ العالم نحن بإبداعاتنا وابتكاراتنا التي تعزز من ثقلنا الدولي؟!

إذا لم تكن لدينا الثقة في أبنائنا ومخرجاتنا المتميزة فإننا لن نصل إلى ما نصبو إليه من تحول تنموي متميز، فالأوطان لا تبنى إلا بأيدي أبنائها ومواطنيها، لا ننكر إنه كانت هناك حاجة كبيرة إلى العمالة الوافدة بمختلف مستوياتها وتخصصاتها في بدايات مراحل التنمية، ولكن لا بد أن نعي كذلك أن تلك الحاجة قد تضاءلت لدرجة كبيرة، مع تدفق مخرجات الجامعات والابتعاث على مدى أربعة عقود من الزمن، حتى أصبحنا لا نحتاج إلا النخبة منها، السؤال: أين هم المواطنون من مواقعهم الطبيعية في جميع المجالات في وطنهم؟ أين هم في مراكز الأبحاث والمستشفيات؟ أين هم في الجامعات والمؤسسات المتميزة؟ أين وأين؟!

لعلنا نحتاج إلى مراجعة كثير من الأخبار المتداولة، حول جهود كثير من مواطنينا الذين يستقطبون من جامعات ومستشفيات ومراكز أبحاث دولية متقدمة، للعمل لديها لتميزهم وإبداعاتهم، متى يجد هؤلاء من يستقطبهم في الوطن؟! كم من أمثال هؤلاء المتميزين موجودون بيننا، ولم يلتفت إليهم أحد، أو لم يجدوا مكانهم اللائق بهم والمناسب لتميزهم؟ ما المحفزات التي قُدمت والجوائز التي رُصدت من الجهات المعنية لاستقطابهم؟! ما التسهيلات التي منحت للمتخصصين والمتميزين منهم؟! لماذا ننتقص دائما من قيمة مقدراتنا البشرية والمادية ويستفيد منها غيرنا؟ لماذا نهدر بأنفسنا مقدراتنا التي استنزفت منّا الأموال والسنين؟! متى نحصد ثمار ما بذلناه من أموال وجهود، لعقود مضت في التعليم والتنمية؟!

لا شك أننا نحتاج لأن نعيد الثقة في أبنائنا ومقدراتنا جميعها، لأن الإبداع سيولد إبداعات وسيخلق ابتكارات، والثقة تصنع المعجزات وتبني الأوطان وتدفعها نحو المقدمة والمكانة المستحقة لها، لتتألق وتزهو عطاء ورخاء، فالوطن هو من يتيح الأرضية الخصبة لمواطنيه ليبدعوا، بالتمكين والتحفيز والاستقطاب، فلنحصد ما زرعناه من بذور لتثمر، وما رعيناه من محصول لينتج، وبذلك يكون النماء والاعتزاز والبناء لوطن يحتوينا بعطائه لنرتقي ونفخر باسمه.