منذ أن تأسست المملكة على دعائم التوحيد وهي تتعرض للدعايات التي كان من شأنها التغرير ببعض مثقفيها، تحت وطأة الرضوخ للأكاذيب والأحلام الساذجة وسوء الطوايا في أحيانٍ أُخر.

وإليكم واقعة طويلة الذيول سيئة العواقب مرت بها بلادنا في عهدها المبكر، اخترتها من بين وقائع كثيرة لأقول للجميع ما أشبه الليلة بالبارحة.

فبعد أن استقرت الأمور لهذا الوطن الكبير على يد الملك عبدالعزيز وأصبحت حدوده من البحر إلى البحر، ومن تخوم الشام إلى تخوم اليمن عام 1344 للهجرة، وصلت الأنباء المؤكدة إلى ملك الحجاز وسلطان نجد وملحقاته الإمام عبدالعزيز بأن جملة من رموز العهد السابق في مكة من إداريين ومثقفين ومشايخ، قد تواصلوا بغية تدبير أمر سوء مع عبدالله بن الحسين ملك الأردن، وذلك قبل أن يتم الوفاق بين الرجلين، فاتخذ -رحمه الله- الإجراء المناسب في حينه بنقل من توجهت لهم التهمة إلى الطائف وسجنهم فيها.

هنالك اتخذ الإعلام الأردني حينها وبعض الصحف المصرية هذا التدبير ذريعة للنيل من الإمام ودولته، والحديث عن الحريات الدينية المفقودة وحقوق الإنسان المنتهكة، وما إلى ذلك من اختلاق الأكاذيب في زمن لم تكن دولتنا تمتلك من وسائل الإعلام سوى صحيفة أم القرى ضعيفة التوزيع، فكان لهذه الدعايات أثرها ليس فقط على العالم الإسلامي، بل على الشباب الحجازي المثقف، وبخاصة من كانوا يقيمون في مصر، حيث تعهدت لهم الأردن بمبلغ مالي يؤسسون به جمعية الشبان الحجازيين، ضمت كثيرا ليس من الشباب الحجازي في مصر، بل من الأعيان الموجودين هناك أيضا، وأخذت على عاتقها تشويه سمعة الدولة بين المسلمين عبر الإعلام المصري الذي كاد يكون هو الإعلام الوحيد المقروء على مستوى العالم الإسلامي آنذاك، وكذلك تشويه الدولة واستجلاب الضغوطات عليها من قِبَل الدول الغربية الكبرى، وكان من نتائج هذه الجمعية إفشال المؤتمر الأول للخلافة الذي أُقيم في مصر، فبالرغم من أن سلطنة نجد ومملكة الحجاز لم تكن ممثلة في هذا المؤتمر لاعتراض الإمام عبدالعزيز عن تقلد منصب الخلافة بعد أن عرضه عليه مسلمو الهند، بالرغم من ذلك إلا أن كثيرا من الوفود الإسلامية جاءت تحمل العزيمة على ترشيح الملك عبدالعزيز لهذا المنصب، كونه هو الزعيم الوحيد من زعماء المسلمين المستقل عن أي استعمار أجنبي، هذا إذا استثنينا إمام اليمن يحيى حميد الدين الذي لم يكن مؤهلا لهذا المنصب لأسباب أُخَر. فاجتهد شباب الجمعية في تشويه صورة الأوضاع في الحجاز لدرجة جعلت شوكت علي ممثل مسلمي الهند الذين هم أول من دعا لاستخلاف عبدالعزيز، يقول في المؤتمر متأثرا بتلك الدعاية: «إن حرية المذاهب غير محترمة في الحجاز بدليل هدم قبور السلف الصالح وآل البيت»، ولم يجد هذا الرجل إلا أن يشتكي من كون الدولة تطهر البيت من مظاهر الخرافة والانحراف بالتوحيد عن حقيقته، وقال مثل ذلك محمد الظواهري العالم التكفيري المتطرف الذي أصبح فيما بعد شيخا للأزهر وألف كتاب: «يهود لا حنابلة» يقصد به أتباع عبدالعزيز ودعوة ابن عبدالوهاب الإصلاحية.

المهم: أن هذه الجمعية كان لها من التأثير على سمعة بلادنا الكثير، ورغم ذلك فإن المملكة الأردنية تخلت عن دعمها كما تخلى عن دعمها الأثرياء الذين كانوا يُمِدُّونها، هنالك وجد شباب الجمعية أنفسهم في العراء إلا أن يد عدوهم الملك عبدالعزيز امتدت إليهم بواسطة ممثله في مصر الشيخ فوزان السابق، الذي استعد بدعم الجمعية شريطة أن تتحول من جمعية سياسية إلى جمعية خيرية تدعم الأسر الحجازية في مصر والطلاب منهم وبني السبيل، فغيرت الجمعية ميثاقها والتزم السابق بدعمها إلا أن الشباب لم يلتزموا بميثاقهم وعاودوا النشاط السياسي المناوئ، فابتعدت عنهم يد الملك عبدالعزيز آسفة.

وبالرغم من كون سجناء الطائف قد أُطلقوا جميعا، وعفا الملك عبدالعزيز عنهم وأبعد من لم يكن منهم منتميا حقا للحجاز إلى بلاده، إلا أن سجنَهم ظل إحدى الذرائع لإنشاء حزب كان أخطر من الجمعية الآنفة الذكر، وهو ما سُمِّي: «حزب الأحرار الحجازيين» الذي دعمه أيضا عبدالله بن الحسين، وافتتح الحزب مكاتب عديدة في عدد من البلاد، وتحققت على يديه فتنتان سالت بسببهما الدماء، لكن الله نصر الملك عبدالعزيز فيهما، وكانتا سبباً في مزيد من عزه وتمكينه.

الأولى فتنة ابن رفادة في الشمال، والأخرى فتنة الأدارسة في الجنوب، وبينهما تخطيط الحزب لقتل الملك عبدالعزيز في مكة.

أما الأولى فقد تولى الحزب بدعم من عبدالله بن الحسين ترحيل حامد بن سالم بن رفادة من مصر إلى مدينة ضبا، وإمداده بالمال والسلاح والحصول على دعم معنوي له من بعض الدول العربية للأسف، وذلك عام 1351، لكن الملك عبدالعزيز تمكن بفضل الله عليه من القضاء على هذه الفتنة والقائم بها.

أما الأدارسة فقد كانت الاتفاقية بين السيد حسن الإدريسي تقضي بتولية الملك عبدالعزيز التراتيب المالية والإدارية في البلاد الخاضعة للإدريسي، وذلك عام 1349، لكن ممثلي حزب الأحرار الحجازيين في مصوع وعدن أقنعوا الإدريسي بالتمرد ونقض معاهدته مع الملك عبدالعزيز، وقاموا بترحيل رجال للمقاتلة معه من القبائل العربية في أريتريا، هنالك جرد الملك عبدالعزيز قوة استطاعت هزيمة تلك الحشود القادمة للفتنة في رجب من عام 1351، فأما السيد الحسن الإدريسي فالتجأ إلى صنعاء في قصة طويلة انتهت بعفو الملك عبدالعزيز عنه وإكرامه وإنزاله خير منزل في مكة حيث اختار هو.

وأما ممثل حزب الأحرار الحجازيين فعاجل الله بنفسه، وألقى بها في البحر ومات غرقا غفر الله لنا وله.

وأما تخطيط الحزب لقتل الملك عبدالعزيز، فإنه في الصباح الباكر من يوم جمعة يوم النحر عام 1353 تقدم اثنان من الجنسية اليمنية واعتديا على الملك عبدالعزيز، وولي عهده، في صحن المطاف في محاولة للاغتيال أفشلها الله تعالى، وتقدمت الحكومة اليمنية بنتائج التحقيق لديها وكانت دقيقة ويظهر أنها صادقة في النأي بنفسها عن الحادث، ولا يبعد أنها كانت من تدبير حزب الأحرار الحجازيين لعدد من الشواهد.

هذه الأحداث الجسيمة والجنايات العظيمة في حق الدولة والشعب وفي حق موحد هذه البلاد وولي أمرها، ومستوجب شكرها بعد الله تعالى، واجهها ملك العفو والصفح والحلم والتؤدة عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود بالمرسوم رقم 23-1-19 في 7/ 10/ 1353هـ، وذلك بالعفو عن المبعدين أو المطلوبين في الخارج، وعاد أكثرهم وحظوا بالعفو والإكرام، ومنهم من نالوا ثقة الملك في توليهم بعض المناصب العامة والهامة.

أما مؤسس حزب الأحرار الحجازيين فلما رأى أن أعضاء الحزب وأعضاء جمعية الشبان الحجازيين وجميع المعارضين قد عادوا إلى أحضان البلاد، اتجه إلى عدن وأخذ يحشد الناس حوله، وظن أنه قادر على اختراق الأراضي اليمنية ومقاتلة الملك عبدالعزيز داخل الحجاز، لكن قوات الإمام يحيى واجهت حشوده فاضطر للاحتماء بالإدارة البريطانية هناك، وطالب الإمام يحيى السلطات البريطانية في عدن بتسليمه إليه، وعزمت السلطات البريطانية على ذلك لولا أنه التمس عدم تسليمه للإمام يحيى، وبدلا من ذلك تسليمه لابن سعود لِمَا رآه من عفوه عن أقرانه، وبالفعل استجابت السلطات البريطانية لالتماسه وسلمته للملك عبدالعزيز الذي بدوره عفا عنه كما كان يظن.

إن من تتبع هذه القصة وأمثالها يوقن أن من أعظم ما أورثه عبدالعزيز لأبنائه وأحفاده كريم السجايا، وأبلغها العفو، وكلما كان الجرم أكبر كان العفو أعظم، ولا يَزِين العفو مثل القدرة على العقوبة، فالقادر على العقوبة أعظم فضلا وأوسع صدرا وأكبر شكرا لنعمة ربه حين أمكنه من خصمه، ولذلك يُعد العفو للجناة من أحرار النفوس بمثابة القتل، لما في نفوسهم من الشر والنقمة كما قال المتنبي:

وما قَتَل الأحرار كالعفو عنهم

ومن لك بالحر الذي يحفظ اليدا

إذا أنت أكرمت الكريم ملكته

وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا