نقل الإمام الماوردي، أحد أشهر علماء القرن الرابع الهجري، في صفحة 301 من كتابه (أدب الدنيا والدين)، أثرا جميلا نصه: «إن لله تعالى في أثناء كل محنة منحة»، واستشهد بعد ذلك ببيتين فيهما من الحكمة الشيء الكثير، وهما: «لا تكره المكروه عند نزوله * إن العواقب لم تزل متباينة.. كم نعمة لا تستقل بشكرها * لله في طي المكاره كامنة»، وبعضهم ينسبها لسيدنا علي بن أبي طالب، رضي الله عنه.

لا يمكن عدم وصف (كورونا) بأقل من أنه (محنة)، بمعنى بلية، وأن في طيات ذلك توجد (منحة)، بمعنى عطية، وبقليل من الانتباه نجد أن هذا المرض، الذي نسأل الله أن ينهيه من هذا العالم عاجلا غير آجل؛ له فوائد كثيرة وجليلة، منها ما هو على المستوى المحلي، ومنها ما هو على المستوى الدولي، ومنها ما هو على المستوى الفردي، ومنها ما هو على المستوى الجماعي..

ثبت لدى الكل أن جائحة (كورونا)، فاقت غيرها من جوائح الإنفلونزا المختلفة، كالروسية، والإسبانية، وآخرها إنفلونزا H1N1، وذلك من حيث توحيده للعالم، وتفريقه له في نفس الوقت، إذ أصاب كل القارات، وكل الطوائف والأعراق والجنسيات، والأثرياء كما الفقراء، وعزلهم، وأغلق عليهم قطاعاتهم، وألزمهم بالجلوس في أماكنهم، ومراقبة أنفسهم بأنفسهم..

هذا الجيل سيؤرخ شبابه أحداثهم وذكرياتهم بما قبل (كورونا)، وما بعده، والعالم كله سيدون كاتبو أحداثه، بما قبل وما بعد، وما حصل من غموض ومآسٍ وأزمات، وابتكارات ومعطيات، وتحديات وتخبطات، ووساوس وأوهام وحقائق، ولن نعود لزمن ما قبل (كورونا) بسهولة، خاصة بعد أن تعودنا على الإيجابيات (الكرونية)..

لعل أبرز فوائد (كورونا) الاعتراف التام بالعجز والضعف والحيرة، وبعدها تأتي مجموعة فوائد حسية جميلة، وبعضها لا ينبغي التراجع عنه مطلقا؛ فغسل اليدين وتنظيفهما بالصابون، أو تعقيمهما بالمعقمات صار ممتعا، وعرف العقلاء قيمته، والاجتماعات والمؤتمرات والدروس والمحاضرات (عن بعد) رائعة، وأخف مؤونة، ومؤدية للغرض منها، وصار اليوم أجمل مما سبق، والبيوت أكثر حميمية من ذي قبل، وتقاربت الأسرة الواحدة بعد أن كانت بيوتها فنادق للنوم، ومناسباتنا صارت معقولة من حيث التكاليف والالتزام، وعرف الناس قيمة (المسافة الشخصية)، وترك مسافة حقيقية بينهم وبين الأشخاص الذين يتحدثون معهم، وفهموا جميعا معنى بيت الإمام الشافعي: «رام نفعا فضر من غير قصد * ومن البر ما يكون عقوقا»؛ فليس صحيحا أن يقوم أي فلان بتلقيم أي فلان بيده، أو أن يأكلا من إناء واحد، أو يقومان بالشرب معا، من نفس الكأس.

أختم بأن التغييرات الجذرية الإيجابية التي أفرزها هذا الحدث السلبي لا يمكن الإتيان عليها في مقال واحد، وصدق المصطفى، صلوت ربي وسلامه عليه القائل: «عجبا لأمر المؤمن، إن أمره كله له خير».