استثمر خطاب الصحوة مكانة الشيخ الرمزية في المرجعية الدينية التي كان يستمد شرعيته منها. ونصّب دعاتُها -على اختلاف مستوياتهم العلمية- أنفسهم أئمة وخطباء تكتسب أحاديثهم وخطبهم ودروسهم حصانة تحول بينها وبين النقاش، وتنزّلها منزلة المُسلّمات، بحيث يغدو أي تشكيك فيها تشكيكا في الدين نفسه، وأي ريبة في أولئك الدعاة ريبةً في أصول التشريع ومصادره.

تتحول علاقة الشيخ بتلاميذه، ثم علاقة الداعية بجمهوره الذين يستمعون إليه، إلى علاقة بطريركية، يتزل فيها الشيخ، ثم الداعية، منزلة الوالد الذي حين يتحدث يتوجب على أبنائه الاستماع، وحين يأمر تجب عليهم الطاعة، وأي خروج عن هذه وتلك لا يمكن له إلا أن يكون ضربا من العقوق الذي لا يليق بالأبناء البررة أن يقعوا فيه.

يفتتح الأمين الحاج محمد، عضو رابطة العلماء المسلمين بحثه «حقوق العلماء على طلابهم الأوفياء» بجملة من الحقوق التي يمهّد بالتسليم بها، للتسليم بما يليها، كحق الله على عباده وحقهم عليه، وحق الوالي على رعيته وحقهم عليه، وحق كل من الزوجين على الآخر وحق الآخر عليه، ثم يعرض بعد ذلك للعلاقة بين الشيخ وطلاب العلم، مؤكدا أن «الرحم الذي بين أهل العلم -مشايخ وطلابا- لا يقل عن الرحم الذي بين الأقارب وذوي الأرحام، ولهذا لا بد من رعايته والاهتمام به، وأداء حق الرحم».

ولا يفوته لتكريس هذا التصور للعلاقة، أن يحتجّ بالحديث الذي رواه أبو هريرة: «إنما أنا لكم مثل الوالد لولده»، وإذا كانت مخاتلة الخطاب تجلّت في استدراج السامعين بما هو مُسلّم به من حقوق لله على عباده، والوالي على رعيته، فإن المخاتلة في الاستشهاد بالحديث النبوي تبدو أكثر وضوحا، حين يتبدى فيها الشيخ وريثا لمقام الأبوة، الذي خص به الرسول -صلى الله عليه وسلم- نفسه، وهي مخاتلة تقوم على إغفال ما للنبي من خصوصية لا ينفصل فيها حديثه عن رسالته وعن مصدر تلك الرسالة التي تبرئ حديثه من الخطأ، ويتنزه عن النطق بالهوى، وبمثل هذه المخاتلة يتم تحصين كلام الشيخ، فيغدو حديثه فوق الشبهات والاحتمالات التي تستدعي الحوار والمناقشة.

وإذا كان العلم يقوم على الحوار والنقاش، فإن تحوّل العلم إلى سلطة رمزية تسعى إلى استسلام طالب العلم لشيخه وتسليمه بما يقول، لا يلبث أن يسمى النقاش والحوار مراءً، مذكّرا بالنهي عن المراء، مشيرا إلى ما يمكن أن يفضي إليه من حرمان التلميذ من علم شيخه حين يحجبه عنه عقابا على مرائه له، والاستشهاد في هذا المقام بلقمان استشهاد بالحكمة التي ينبغي تقديرها، حتى وإن خفيت على الإنسان في مرحلة من مراحل عمره.

يقول الأمين الحاج محمد في بحثه الآنف الذكر «ومن وصايا لقمان الحكيم لابنه: جالس العلماء وزاحمهم بركبتيك، ولا تجادلهم، خذ منهم إذا ناولوك، والطُفْ بهم في السؤال، ولا تضجرهم، إن تأذيت به صغيرا انتفعت به كبيرا»، ثم يستشهد بقول ميمون بن مهران: «لا تمارِ من هو أعلم منك، فإنك إن ماريته خزن عنك علمه، ولا يبالي ما صنعت»، ولا ضير لتعزيز هذا الرأي من الاستشهاد بالمتصوفة ما دام لديهم ما يكرس مكانة الشيخ.

يقول الشاطبي «الاعتراض على الكبراء قاضٍ بامتناع الفائدة، مبعد بين الشيخ والتلميذ، لا سيما عند الصوفية، فإنه عندهم الداء الأكبر حتى زعم القشيري منهم أن التوبة منه لا تقبل، والزلة لا تقال».

وإذا كان الله -سبحانه وتعالى- قد جعل من حسن خُلُق النبي عِلةً لمحبة الصحابة له، وحرصهم على الاستفادة من علمه. مؤكدا -سبحانه وتعالى- أنه لو كان فظا غليظ القلب لانفضوا من حوله، فإن الأدبيات التي تكرّس مقام الشيخ لا تتجاهل ما قد يكون فيه من فظاظة وسوء خلق، غير أنها تؤكد أن ذلك لا يمنح تلاميذه حق الانصراف عنه، بل يتوجب عليهم الصبر عليه، والمبادرة إلى التلطف معه.

يقول الأمين الحاج محمد «قد يصدر من الشيخ بعض الجفاء، وشيء من الغلظة، فلا ينبغي أن يكون هذا حائلا أو مانعا من الاستفادة منه، والانتفاع بعلمه والصبر عليه، فبالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين. ينبغي لطالب العلم:»أن يصبر على جفوة تصدر من شيخه، أو سوء خلق، ولا يصده ذلك عن ملازمته، وحسن عقيدته، ويتأول أفعاله التي يظهر أن الصواب خلافها على أحسن تأويل، ويبدأ هو عند جفوة شيخه بالاعتذار والتوبة مما وقع، والاستغفار، وينسب الموجب إليه، ويجعل العتب عليه، فإن ذلك أبقى لمودة شيخه، وأحفظ لقلبه، وأنفع للطالب في دنياه وآخرته«. قال بلال بن أبي بردة: «لا يمنعكم سوء ما تعلمون منا، أن تقبلوا أحسن ما تسمعون منا«، وإذا ما تحقق ذلك كله أصبح من حق الشيخ على تلميذه نشر العلم الذي علمه إياه، وذكر الفضل الذي أسبغه عليه، والحديث عن حسناته والتصدي لمن يتعرض له».

وتمثل المبالغة في الاستشهادات والأمثلة في دراسة الحاج أمين، إحدى آليات الخطاب في استخدام التاريخ والمرجعية الدينية وسيلةً للإقناع وفرض الهيمنة، كما تمثل المبالغة في استحضار أسماء السلف من الصحابة والتابعين وعلماء المسلمين والفقهاء والمحدثين، وسيلةً أخرى تشكل رأس المال الرمزي الذي يتمكن الخطاب بموجبه من الهيمنة على من يتوجه إليهم، وتحويلهم إلى جماعات خطابية مستسلمة لهيمنته دون أن تشعر بتلك الهيمنة. استحضار المرجعية الدينية أعلاما وآراء وتشريعات، لا يهدف إلى نقل المعرفة وإنما استخدام المعرفة كوسيلة للسلطة وأداة للهيمنة، بحيث تبدو أي مخالفة للخطاب أو مساءلة له مخالفة لكل ما استحضره من العلماء والفقهاء، والخروج عنه خروجا على كل ما أقره السلف الصالح من قيم ومبادئ.

وإذا لم يكن من الحق إنكار أن أدبيات العلاقة بين الشيخ وتلاميذه تحوي قيما أخلاقية تتصل بأساس العملية التعليمية، فإن استخدام الخطاب الصحوي لها كان أحد أهم وسائله للهيمنة، وباتت عبارة «لحوم العلماء مسمومة» سلاحا يشهرونه في وجه كل من انتقد داعية من دعاة الصحوة، أو كشف زيف ما يدعو إليه، وأصبح كل من توسط حلقة للدرس أو اعتلى منبرا للخطابة عالِما من العلماء الذين لا يجوز انتقادهم، فلحومهم مسمومة، ومن يَعرِض لهم يعرِّض نفسه للخطر.

الأداب التي تحدد علاقة طالب العلم بشيخه تمثل النموذج الواضح لما أسماه ميشيل فوكو إجراءات الحجب والمنع، ومن أهمها أنه لا يجوز لنا الحق في أن نقول كل شيء، وإذا جاز لنا بعض ذلك فإنه لا يمكن لنا الحديث عن كل شيء في كل ظرف، وأن هناك من لا يجوز له أن يتحدث عن أي شيء، وفي الوقت نفسه فإن إجراءات الحجب والمنع، هي الإجراءات التي تمنح حق الكلام لذات متحدثة تمثل منتج الخطاب والناقل له والمتحدث الرسمي باسمه.