دائما ما نشاهد حسابات عربية تباهي بالحرية في أمريكا، بحجة إمكانية شتم الرئيس وإهانته، وهذه الحرية المتاحة في أمريكا ليست قيما نبيلة ولا تنم عن حق وصواب، فالرئيس في نهاية المطاف له سمعته وكرامته التي لا يحفظها النظام الأمريكي الديمقراطي، وهو ما يحدث على سبيل المثال مع من يتعرض للاتهام في إحدى القضايا، فالجهات القضائية والتنفيذية هناك تفضحه من بداية الاتهام وتسمح بتشويه سمعته حتى بعد ثبوت براءته، أما انتهاك الخصوصية في أمريكا فهو حق مشاع، إذ يمكن لأي مواطن أن ينتهك خصوصية أي مواطن عبر تصويره وفضح أسراره، حتى لو كان ذلك على حساب تحطيم حياته وتفكيك أسرته، والشواهد من هناك يطول ذكرها.

هذه المنظومة الديمقراطية الأمريكية تأسست بالتقادم، على مبادئ نبعت من الحاجة لضبط الفوضى التي عاشها الأمريكيون، بعد أن كانت محكومة من العصابات، وبعد خوضهم حروبا أهلية طاحنة، وتجارب مريرة في الاستعباد الوحشي المفرط للعبيد، وهو ما أدى في نهاية المطاف إلى تحريرهم لأسباب عسكرية واقتصادية عبر إعلان حرية العبيد، لضمان وقوفهم مع الاتحاد الأمريكي، إضافة إلى عامل ضرب اقتصاد الجنوب القائم على تجارة العبيد، ودون أن نغفل ظهور الفكرة كحق إنساني لإيقاف الجرائم المروعة بحقهم، لذلك نجد حتى في أنظمتهم الديمقراطية بعض التطرف في الانفلات الديمقراطي، ومع ذلك فحتى هذه الديمقراطية وفي أرقى أشكالها هي مجرد حالة مؤقتة تختفي في الأزمات، ويكفي ذكر شاهدين من التاريخ، الأول، ظهور «المكارثية» إبان الحرب بين النظامين الرأسمالي والشيوعي، وهي حالة من التخوين والاتهام بالخيانة دون أدلة، وكان الاتهام يوجه لأعضاء من الحكومة الأمريكية بتهمة الانتماء للفكر الشيوعي، ورغم نهاية المكارثية وتمثيلية الاعتذار، إلا أنها حققت نجاحا كاملا في سحق الشيوعيين الأمريكيين، وإصابة أي أمريكي بالرعبمن أي محاولة للانتماء إلى هذا الفكر حتى بعد نهاية المكارثية، أما الشاهد الثاني -رغم كثرة الشواهد في إثبات استعداد وقابلية أمريكا للتخلي عن مبادئها الديمقراطية- هي أزمة «جوانتنامو» التي استخدمت للحرب على المتشددين الإسلاميين بعد تمثيلية 11 سبتمبر، دون الخضوع للأنظمة الديمقراطية الأمريكية، وأبسطها حق المتهم في الدفاع عن نفسه، إضافة إلى حالات التعذيب، فحتى حدث سجن «أبو غريب» لم يكن مجرد حادثة عاقبت مرتكبيها، إنما ثقافة كامنة ظهرت، ويمكن أن تظهر في أي لحظة للرغبة الملحة في تعذيب الأحياء والخصوم والمهزومين حتى لو كانوا أبرياء.

الديمقراطية الأمريكية غالبا ما تمارس لدى الغرب والأمريكيين بحسب أولوياتهم، فهناك نقاشات قد تودي بصاحبها خلف الشمس، مثل نقد اليهود أو قيام مسلم بمهاجمة ترمب والحكومة الأمريكية، حتى لو كان من حاملي الجنسية الأمريكية، أو حوادث سجن المسلمين بالاشتباه بالإرهاب الذي اختلقته أجهزة الغرب وأسهمت في بقائه، أو حتى نقاش الأمريكيين الأصليين للنازية، أو محاولة التعاطف معها بأي شكل، فدائما أمريكا جاهزة للانقضاض على من يرتكب المحرمات، ودائما جاهزة لمكارثية جديدة تحت أي ظرف يعصف بها.

أحد الشواهد الأخرى هو إحداث قنوات التواصل لفوضى عارمة في المنطقة فيما يسمى الربيع العربي، وكانت الشعارات الأمريكية هي حق الشعوب وحريتهم في التعبير، ولكن عندما استخدمت قنوات التواصل نفسها ضد أمريكا عبر التلاعب بالانتخابات، أصدرت أمريكا على الفور قانونا يفرض على «فيسبوك» التعريف بموقع الحساب.

كثير من جماعات حقوق الإنسان، خاصة اليساريين في أمريكا وغيرها، عادة ما يتبنون أقصى حالة العداء الإجرامي على الشعوب، فهم لا يبالون بالمصلحة العامة، فإذا خرج لدينا دعاة للكراهية حاربوهم، وإذا سجنوا طالبوا بإخراجهم كما قال عادل الجبير، ولا ننسى أحد الصحفيين الأمريكيين الذي هدد في أوهامه الصحفية بإسقاط المملكة العربية السعودية بسبب متاجرته بقضية خاشقجي، وهذا العبث الإجرامي اليساري هو الذي قاد حملات الدعوة إلى الفوضى وقتل وتعذيب وتهجير الملايين في العراق وسورية، فهو لا يبالي بالمصلحة العامة ولا الوحدة الاجتماعية التي طالب سعود الفيصل بحمايتها من احتلال عراق صدام، وهو لا يعترف أيضا بالأنظمة الأبوية الشرقية، ويضمر في داخله رغبة ملحة لحدوث فوضى إجرامية شاملة في المنطقة، تشبه بدايات الغرب الذي لم يعرف حقوق الإنسان إلا بعد وصوله إلى أبعد ما يمكن أن يصل إليه الإنسان من وحشية.في الوقت نفسه لا يمكن إنكار النتائج المرغوبة التي تحققت لأجل المصلحة الإنسانية انعكاسا من هذا النموذج الديمقراطي، مثل تحرير العبيد وحقوق النساء، والإعلاء من شأن الكرامة الإنسانية وغيرها، ولكن لا يمكن النظر إلى هذا النموذج باعتباره النموذج المثالي، ولا يمكن إنكار ظهور النموذج الملكي الأبوي العربي، الذي أثبت فاعليته وتفوقه في كثير من المجالات على النموذج الديمقراطي الأمريكي، وهو ما يستدعي التعامل مع هذه الاختلافات بموضوعية، وليت اليساريين العرب يفقهون ويتعلمون من التجارب والأزمات، ويفكرون في مصلحة شعوبهم وحمايتها من الفوضى، فالسلطة لها أولويات، على رأسها المصلحة العامة، وحماية الوحدة الاجتماعية، والحفاظ على كيان الدولة والنظام أيا كان شكل السلطة.