التململ، والانفعال، والتدقيق، والشعور بفقدان المتعة، أشياء باتت مألوفة على كثير من الرجال الذين وجدوا أنفسهم فجأة رهناً لمنع التجول، والحجر المنزلي، والمكوث الطويل في البيت، وهم الذين اعتادوا دوماً على أن يكونوا ولفترات طويلة يومياً خارجه.

وإذا كان معظم الرجال يتفقون في هذه الانعكاسات، مع بداية المنع، فإنهم ينقسمون غالباً بعد فترة، إذ يستمر بعضهم على نفس المنوال ويصلون مراحل التصادم مع العائلة، فيما يتأقلم آخرون مع الوضع، ويبدأون السعي في تحويله إلى استثمار مجدٍ ونافع للوقت.

بلا مقدمات

يقول استشاري العلاج النفسي والأسري الدكتور عبدالله المناحي إن «معظم الرجال اعتادوا أن يقضوا معظم أوقاتهم خارج المنزل ما بين العمل، وزيارة الأهل، والأصدقاء، وشراء احتياجات المنزل، ناهيك عن وقت الذهاب للمسجد لأداء الصلوات.. وفجأة، بلا مقدمات أو تهيئة، وجدوا أنفسهم في المنزل بشكل كامل، ممنوعين من الخروج التزاما بالتدابير الاحترازية المفروضة لحمايتهم من جائحة كورونا، وهذا يؤدي بالطبع إلى نتائج سلبية تظهر في مشاعر الرجل، وسلوكياته مثل التململ، والشعور بفقدان الحرية والمتعة، ويبدأ بالانفعال الزائد على أمور بسيطة، والمحاسبة على صغائر الأمور، وهذه الحالة تظهر عند معظم الرجال في البداية».

ويضيف «بعد ذلك ينقسم الرجال في التعامل مع الحجر المنزلي إلى فئتين، الأولى تستمر على حالة التململ، والتشكي، والتضجر، وتبدأ في التصادم مع أفراد الأسرة خاصة الزوجة، وهنا تظهر المشاكل والخلافات، وقد يميل الرجل خلال هذه الفترة إلى الانطواء، والانعزال عن أسرته، وتظهر لديه أعراض بعض الاضطرابات النفسية مثل الاكتئاب، فتكون نظرته للحياة سوداوية، ويكون متشائماً سريع الانفعال، والغضب، وهذه الفئة تقضي معظم وقتها إما في النوم، أو متابعة القنوات الفضائية، ويكون دوره سلبيا داخل المنزل، يقتصر على إصدار الأوامر، والتعليمات، ولا يشارك نهائياً في أعمال المنزل، فيما تعاني أسرته نفسياً واجتماعياً من وجوده معهم، حيث يمارس عليهم بطريقة مباشرة أو غير مباشرة ضغوطا نفسية، لإثارته عددا من المشكلات».

فئة متفائلة

يشير الدكتور المناحي إلى أن ثمة فئة ثانية من الرجال تتكيف سريعا، ويقول «الفئة الثانية هم الذين يتكيفون سريعاً مع الوضع الاجتماعي والأمني الجديد، ويبدأون في استغلال أوقاتهم بما يعود عليهم بالنفع من خلال استثمار هذه الأوقات في تقوية العلاقة مع الزوجة، والتواصل مع الأبناء، والجلوس معهم، ومناقشتهم في جوانب الحياة المختلفة، وممارسة بعض الألعاب الجماعية معهم، كما يستثمر وقته بتطوير مهاراته الشخصية مثل تعلم لغة أجنبية، أو حضور بعض الدورات عن بعد، أو استكمال أعماله الخاصة، أو تخصيص وقت للقراءة، إضافة إلى الحرص على أداء الصلوات جماعة مع أفراد أسرته، فالأب هنا يكون دوره إيجابيا في مشاركة أسرته في أعمال المنزل، فتجده يساعد في إعداد الطعام، أو التنظيف، ولاشك أن زوجته وأبناءه يشعرون بالجانب الإيجابي لوجوده قربهم، ما يشعرهم بالسعادة والتماسك».

عامل مشترك

يضيف الدكتور المناحي أن العامل المشترك الذي أدركه جميع الرجال في أزمة كورونا، وفي كلا الفئتين، هو الشعور بمعاناة الزوجة في جلوسها في المنزل مقابل خروج الزوج، والبحث عن المتعة في الاستراحة، أو السفر مع زملائه، حيث شعر كثيرون منهم بتأنيب الضمير لأنه كان يمنع زوجته من الخروج للسوق، أو زيارة صديقاتها، وأقاربها، ولا يسمح لها إلا في أضيق الظروف، إضافة إلى معرفته دورها الكبير في المنزل من تربية الأبناء، ومتابعتهم في الدراسة، والقيام بشؤون المنزل المختلفة من الطبخ، والتنظيف، والترتيب، وغيرها.

تعايش

يقول المستشار الأسري فهد القحطاني «كان الاضطرار إلى الجلوس في البيت معظم الوقت مفاجئا في بداية الأمر، وغير مألوف للرجال، لكن بالتعايش مع الواقع تأقلموا معه، وبات الوضع ممتعاً لمن أوجد لنفسه برنامجاً متوازناً، على الرغم من أن البعض عانى بداية من العصبية والتدخل في كل شيء، لكنه روّض نفسه بعد ذلك على الوضع، وتأقلم معه».

ويضيف «من الأشياء الجميلة التي اكتشفها الرجل خلال هذه الفترة هو حجم الجهد الذي تبذله الزوجة، أو الأم في البيت، ومتابعة متطلبات الأبناء، وتهيئة الوجبات، والسهر على راحة الجميع».

ويكمل «الأصل أن العقلاء تغيرت نظرتهم إيجابياً، وزاد تقديرهم للزوجة، والأبناء».

إيجابيات

تابع المستشار القحطاني «في الغالب يقضي الرجل وقت الحجر بمتابعة وسائل الإعلام، ووسائل التواصل، وممارسة بعض الألعاب القديمة والجديدة مع الأبناء، والزوجة، وهناك البعض الآخر بدأ يمارس هواية الشوي، وإعداد بعض الوجبات، فيما يلتحق آخرون بدورات تدريبية عن بعد، أو يشاركون في حلقات القرآن عن بعد..الجانب الإيجابي لهذه الأزمة أن الغالبية العظمى زادت العلاقة بينهم بشكل إيجابي، وزاد التفاهم، والحوار، والملاطفة».

الخلل

يوضح المرشد النفسي عبدالرحمن الزهراني أن فرض الحجر المنزلي بشكل فجائي نتيجة تفشي الجائحة، كان له أثر كبير على نفسية الرجل، واصفاً الأمر بالطبيعي.

ويقول «عندما تتغير العادة بصورة فجائية يحدث الخلل، لذا حدث ارتباك في أغلب المنازل، لكن مع مرور الوقت، والشدة في تطبيق المنع، وتنامي الوعي والإحساس بالخطر من انتقال العدوى، رضي كثيرون بالأمر الواقع واستجابوا لمتطلباته، وصاروا يبحثون عن حلول تتناسب مع وضعهم الجديد، وفعلًا استطاع كثيرون التأقلم، وبدأوا حياة جديدة تختلف عما قبل الحجر، حيث أصبح الفراغ كبيرا، وبات الهم الشاغل هو قضاء هذا الفراغ الذي اختلف الناس في شغله، ولكن أجمعوا على عودة الحياة، والألفة الأسرية، وأصبح الأب والأم قريبين من الأبناء، بعد أن باعدت بينهم ظروف الحياة».

اختلاف

يرى الأخصائي الاجتماعي فيصل العروان، أن تعامل الرجال مع الحجر اختلف حسب طبائعهم، ويقول «بعض الرجال من قبل الحجر وهو من النوع الذي نسميه اصطلاحا «بيتوتي» أي يمكث في البيت كثيراً، فالحجر بالنسبة له لم يكن أمرا مزعجا، بعكس آخرين اعتادوا الخروج من المنزل، وقضاء أغلب الأوقات خارجه، فالأمر مزعج لهم».

تأثير

يضيف العروان «يختلف تأثر الرجل بالحجر، وبعلاقته بأسرته، وذلك يعود إلى مستوى الوعي، والثقافة، والإدراك للرجل، فكلما قلّت ثقافته، واطلاعه تسبب ذلك في النظرة السلبية للجلوس في المنزل، مما يؤدي إلى زيادة المشاكل مع زوجته، وخاصة إذا لم تكن العلاقة على وفاق قبل الحجر، وجهله بجدولة وإدارة الوقت وتنظيمه، واستغلال الألعاب المنزلية، والهوايات، وإجراء المسابقات الثقافية، والرياضية بين الأبناء، واستثمار التقنية في الاجتماعات العائلية، وزيادة المخزون العلمي، والمعرفي، والمهني، والمهاري.. كل هذه المشاكل الزوجية، أو فوضى تنظيم الوقت، والنفسية السيئة ناجمة عن ضعف مستوى الوعي لدى بعض الرجال في كيفية إدارة الحجر المنزلي».

إدراك التفاصيل

بدورها، طالت التغيرات حياة المرأة أيضاً، حيث تؤكد الأخصائية النفسية فهدة باوزير أنه تبعا لطول مدة مكوث الرجل في المنزل على غير عادته، فقد تأثرت حياتها، فبعد أن كان في السابق يقضي معظم وقته في الخارج ولا يأتي إلا في نهاية اليوم، ولا يعلم ما هي المهام التي تقوم بها المرأة طوال اليوم، صار اليوم مطلعاً أكثر وأقرب لإدراك مهامها.

وتقول «أثر مكوث الرجل طويلا في المنزل إيجابا أو سلبا، فمن الإيجابيات التقارب الواضح بينه وبين زوجته لأنه أصبح يدرك تفاصيل اليوم وأحداثه من خلال تواجده معها، إضافة إلى قضائه وقتا أطول وأكثر تنظيما مع الأبناء والزوجة من خلال الجلسات الحميمية التّي فقدتها الأسرة في السابق، مثل الجلوس على مائدة طعام واحدة، ومشاركة الرجل في الألعاب، وحتى الطبخ، وبعض المهام الأخرى، وهذا من شأنه أن يضفي لمسات لطيفة على العلاقة الزوجية، ويعزّز رابطة الألفة والمشاركة بين الزوجين، وأيضا يساعد في حل المشكلات العالقة بين أفراد الأسرة، ويزيد من نسبة تفهم الرجل وإدراكه لمعاناة المرأة المتعلقة بتدبيرها لأمور المنزل أو بعض المشكلات الأخرى التّي تخص أبناءهما».

وتضيف «على الرغم من إيجابيات المشاركة والترابط، إلا أنها لا تعني إلغاء مساحة الحريّة الضرورية لكلا الزوجين، ونعني بذلك جزء من الوقت مقتطع يقدّر (بساعة، ساعتين) يقضي فيه كل منهما نشاطاته المختلفة بحرية مثل ممارسة الرياضة، والتواصل مع الأصدقاء أو الاستماع إلى الموسيقى أو أي عمل ونشاط يفضّل الشخص ممارسته وحده».

وضّحت باوزير أن هذا الوقت مناسب أيضًا ليتشارك الزوجان مع أبنائهما في متابعة الأفلام ذات الرسائل الهادفة، بدلًا من التوجيه والإرشاد المباشر، لأن يساهم في زيادة الألفة والتقارب والانسجام بين أفراد الأسرة.

أما عن أبرز السلبيات التّي نتجت عن بقاء الرجل في المنزل هو إحساسه المفاجئ بأن الأبناء يفضلون الأم على الأب، وغالبًا ما يميلون إليها بل ويستغربون وجوده لمدة طويلة في المنزل؛ مما يشعره بعدم الارتياح والغضب فيظهر ذلك في سلوكياته من خلال الألفاظ السيئة والترهيب؛ يؤدي ذلك إلى غياب الألفة والمتعة، والمزيد من المشاعر السلبية مثل خوف الأبناء من أبيهم، ويؤثر ذلك على نفسية المرأة أيضًا فسلوكيات الرجل الغاضب تخلق للأسرة بيئة منفرة تؤثر سلبًا على الجميع.

ذكرت ترف عبدالعزيز عن تجربتها بمكوث الرجل في المنزل قائلة: إن وجود الرجل في المنزل وطريقة تعامل المرأة مع الأمر يعتمد أولًا على تناسب شخصياتهما، وإنني بشكل خاص أرى الأمر إيجابيا، فقد وضحت لي هذه الفترة البسيطة متعة وبساطة أن نعيش معًا في كل الظروف، وبفضل وجود زوجي في المنزل استطعت تنظيم المهام اليومية بسهولة أكثر، وأشعر أن هذه الفترة تعدّ فرصة عظيمة لنفهم ذواتنا وشركاء حياتنا بشكل أفضل.

وتحدثت مها نايف عن تجربتها الشخصية بقولها: إن وجود الرجل في المنزل أشعرها بزيادة العبء والمسؤولية بشكل عام، إذ أنه أصبح يتدخل في أمور عدة، مثل: أماكن وجود الأثاث، أوقات الوجبات الرئيسية، طريقة الاجتماع واللعب، بل إنه قام بوضع جدول يومي لا يتناسب بالضرورة مع جميع أفراد المنزل، وأنها رغم ذلك تحاول أن تحتوي هذه التصادمات التّي تحصل نتيجة الاختلاف، باللطف واللين ومساعدته ليكون أكثر مرونة وتأقلما مع الوضع الحالي.