شكّل اللقاء التلفزيوني الذي بثته قناة mbc -قبل سنوات- مع الدكتور أحمد قاسم الغامدي، وظهور زوجته معه خلال اللقاء، حدثًا أثار كثيرا من الخلاف والاختلاف، بين من أنكروا عليه ما تحدّث عنه من حكم الحجاب، واستنكروا عليه ظهور زوجته سافرة الوجه، وأولئك الذين وافقوه على ما رأى وأيّدوه فيما ذهب إليه.

كان ذلك اللقاء مصطرعا لخطابين متعارضين، مثّل أحدُهما الخطاب الأصولي المتشدد الذي كان مهيمنا على الحياة العامة، ومثّل الآخرُ الخطاب التنويري الذي كان يسعى إلى تحرير المجتمع من هيمنة الصحوة.

(1) كان توقيت ذلك اللقاء مهما وعاملا أساسيا في تحويله من مجرد حوار تلفزيوني، إلى حدث ثقافي ومصطرع للخطابات، ذلك أنه لو تقدّم قليلا لما وجد ما وجده من تأثير وقبول من أوساط كثيرة في المجتمع، ولو تأخر قليلا لتجاوزه المجتمع بما تحقق له من إصلاحات جاءت بقرارات سياسية سيادية، حررته من قيود الصحوة والتيار المتشدد.

شهد عهد الملك عبدالله بن عبدالعزيز -رحمه الله- جملة من الإصلاحات خاصة فيما يتعلق بحقوق المرأة، ومراجعة مناهج التعليم، واعتماد الحوار الوطني، وهو الحوار الذي إن لم ينجح في تقريب وجهات النظر بين الأطراف المتصارعة، إلا أنه نجح في إعطاء التيار التنويري فرصة التعبير عن نفسه، بعد أن كان يعاني من الإقصاء واستئثار تيار الصحوة بالمنابر -خاصة الرسمية- من دونه.

كانت تلك الفترة فترة تحوّل، وكان كل ما يحدث فيها ينتصب علامة دالة على التحول، شاهدةً عليه. لم تكن الأحداث والكلمات والقرارات مجرد أحداث عابرة ولا كلمات معتادة ولا قرارات عادية، كانت جميعها إشارات على أن ثمة تحولا عميقا يحدث في أعلى المستويات، يتجاوب مع التحول العميق الذي كان يسري داخل نسيج المجتمع. في هذا السياق، يمكن لنا أن نعيد النظر في لقاء الدكتور الغامدي، لنرى فيه مؤشِّرَين على ذلك التحوّل، يتمثل الأول: في التحول الثقافي من ناحية إعادة النظر في أحكام أخذت طابع المسلمات، كاعتبار الوجه عورة يجب سترها. والآخر: في التحول الاجتماعي والمتمثل في ظهور المرأة سافرة في برنامج تلفزيوني، وهو تحول يجيء امتدادا لما تحقق للمرأة من رد اعتبار، تمثل في جملة من القرارات التي كانت انتصارا لما ظل التنويريون ينادون به، وما كان يعده المتشددون انحرافا عن جادة الحق، ومما يؤكد هذا التحول الاجتماعي ما تحدث به الغامدي من أن ظهور زوجته في اللقاء كان بمحض إرادتها، ولم يكن بطلب أو ضغط منه عليها، وهو بذلك يؤكد قيمة التحول الاجتماعي الذي كانت تشهده المرحلة آنذاك، والذي مهّد لتقبّل كل القرارات التي أنهت كل تأثير للصحوة على مجتمعنا، وأعادتنا إلى ما كنا عليه قبل أن يهيمن علينا خطابها المتشدد.

(2) كان جانب من الحدث في ذلك اللقاء، أن زوجة الغامدي ظهرت فيه وقد نزعت النقاب عن وجهها. وكان الجانب الآخر -والأهم- هو ما قام به الغامدي حين راح يكشف النقاب -كذلك- عن نصوص كثيرة ظل الخطاب المتشدد مسدلا عليها النقاب، لا يذكرها ولا يتحدث عنها ولا يشير إليها، نصوص لا تتفق مع الخطاب المتشدد واعتبار وجه المرأة عورة، خطاب لا يستحضر إلا حكما قطعيا وحيدا يؤكد ما يراه، ولا يترك مجالا لمن يختلف معه حول ذلك الحكم.

كان الغامدي يعرّي الخطاب المتشدد، يكشف لعبته في الحجب والإخفاء، يقدم من داخل التراث الفقهي ما ينقضه به، لم يكن يتحدث عن حكم الحجاب من أي مرجعية تختلف أو تخالف تلك المرجعية التي تجمعه مع خصومه الذين كانوا ينكرون عليه ما ذهب إليه، كان الغامدي يرجع إلى المرجعية الفقهية نفسها، كي يخلخل ما بات مستقرا، ويكشف عن تعدد الآراء حول ما كان الخطاب المتشدد لا يرى فيه إلا رأيا واحدا، ولا يستخرج من الإرث الفقهي إلا ما يدعم ذلك الرأي ويؤيده. ولم يكن حضور زوجته تأكيدا على صدقه فيما يراه، وأخذه من الفقه ما يبيح له ولزوجته ذلك، ولكنه كان ردا على الحِجاج المبتذل الذي طالما لجأ إليه المتشددون حين يُطرح عمل المرأة أو نقابها، فيرددون: «هل ترضى ذلك لزوجتك؟ هل ترضى هذا لأختك؟»، يتوهمون بذلك أنهم يحرجون خصومهم ويلزمونهم الحجة، وكأنما كان الغامدي يستبق ما سيقولون، مؤكدا لهم: «نعم، أرتضي ما رآه كثير من الفقهاء، وهذا هو شاهدي». كان الغامدي -وهو يطابق بين ما يراه وما يمارسه- يكشف زيف كثير من دعاة الصحوة الذين كانوا يغنون بلسان ويصلون بلسان، يدعون إلى الجهاد ويسافرون للتنزه في بقاع الأرض، وينهون عن السفر إلى بلاد الكفار ويبتعثون أبناءهم للدراسة في جامعات الغرب «الكافر»، ويزيّنون للناس الزهد في الدنيا بينما هم يتكالبون على ملذاتها.

(3) ثمة مسألة أخيرة تتصل بما جعل من ذلك اللقاء حدثا، وهي مسألة تتصل بشخصية الغامدي المنتمية إلى المؤسسة نفسها التي ينتمي إليها خصومه الذين عارضهم، والذين أنكروا عليه ما ذهب إليه، وللثقافة نفسها كذلك، وهو ما يعني أنه شكّل اختراقا للخطاب من داخله، وذلك على نحو ما أوضح فارس بن حزام في مقال له نشره تعليقا على ذلك اللقاء، وعلى ما أحدثه من أثر فقال: «لو لم يكن على رأس جهاز الهيئة في منطقته، ولو لم يكن في الهيئة الشكلية التي هو عليها، لمضى كلامه بلا أثر، وبلا حافز لجحافل الخصوم لتشن حرب الكراهية الواسعة عليه وعلى أسرته. الوظيفة ليست بسيطة في ملف الصراع الفكري الدائر في البلاد. فجهاز الهيئة خط أحمر، وكُتاب الصحف يعرفون جيدا تبعات المساس بالهيئة في سبيل النقد. ولذا أحدث الشيخ الغامدي هذه الصدمة الفكرية، وعلاوة عليها، فما زال الرجل محافظا على هيئته السلفية الصادقة، فلا مس باللحية، ولا عقال على الرأس، ولا مظهر واحد يعكس تنازلا عن سلفيته. وعلى الرغم من خطاب الكراهية الذي واجهه الغامدي من دعاة الصحوة وأنصار التشدد، إلا أن ما شكله من اختراق، وما مثّله طرحُه من تقويض للتشدد من داخله، تعزز من خلال منافحة علماء ودعاة آخرين يشاركونه الانتماء إلى الثقافة الفقهية التي تجمع بين الأطراف المتنازعة، ويؤيدونه فيما ذهب إليه من رأي خالف فيه ما استقر في الأذهان من أحكام قطعية، من أولئك الدكتور عيسى الغيث عضو مجلس الشورى ومستشار وزير العدل وخبير الفقه والقضاء الشرعي لدى جامعة الدول العربية، وهو ممن تولى القضاء وإمامة الناس في الصلاة، إذ كتب: «ليس عجبي من مواقف العوام تجاه مسائل الاجتهاد ومصادرتهم الرأي الآخر، إنما من بعض المشايخ الذين صاروا أكثر استبدادا وغوغائية من مريديهم. المجتمع المتناقض يستنكر الأسوياء». وقال: «إذا تصدر للفتوى متعالم حزبي أو متشدد أو تقليدي، فإنهم يصمتون عنه بل ويشجعونه، لكن حين يخالفهم أحد الرأي يستحضرون ملف تقنين الفتوى. ما رأيت متشددا إلا وهو متعالم، ولا رأيت مجتهدا إلا وهو وسطي، وكلما زاد علمه يزيد احترامه للخلاف، والتشدّد يأتي من ضيق الباع وضعف الاطلاع». كان لقاء الغامدي وما سبقه ولحق به من آراء فقهية تقويضا لخطاب التشدد من داخله، كما كان علامة دالة على التحول الثقافي والاجتماعي الذي مهّد للقرارات العظيمة، التي وضعت حدا لما عاناه مجتمعنا من هيمنة الصحوة، وسيطرة دعاتها على مقدراته.