فالحمد لله، ثم الحمد لله، جلّ في علاه، على إكرامه لخلقه، بالوصول إلى شهر الفضل والإحسان، والبركة والغفران، جعله الله -بفضله وجوده- بابا للفرج وللفرح، العام والخاص.

رمضاننا هذا يأتي وسط ظرف صحي عام، وهو فيروس كورونا المستجد أو الجديد «Covid-19»، الذي لم يقصر أبدا في إحداث اضطرابات عامة وخاصة في حياة البشر كافة، وحرّك -أو ينبغي أن يحرك- عند الشرعيين التقليديين الأمور الراكدة في أذهانهم، وأخصّ بالذكر هنا تلك التي لم يصدر فيها دليلٌ شرعي قاطع، أو تلك التي لا يمكن أن يبرموا فيها أمرهم، إلا بمعرفة واقع معاشهم.

وآثرتُ، لظروف واقع رمضان، أن أعرّج -بشكل سريع هنا- على تأثير الواقع -كورونا- في الفقه الإسلامي، وضرورة أن يستفيد الناس منه.

يقول الإمام الجويني، من علماء القرن الرابع الهجري، في الجزء الثاني من كتابه «البرهان في أصول الفقه»: «معظم الشريعة صدر عن الاجتهاد، والنصوص لا تفي بالعشر من معشار الشريعة»، وهو قولٌ دقيق، ولم يَسْلم -بطبيعة الأحوال- من مناهضٍ له.

ويقول الإمام الشهرستاني، من علماء القرن الخامس الهجري، في الجزء الثاني من كتابه «الملل والنحل»: «نعلم قطعا ويقينا أن الحوادث والوقائع في العبادات والتصرفات: مما لا يقبل الحصر والعد، ونعلم قطعا -أيضا- أنه لم يرد في كل حادثة نص، ولا يتصور ذلك أيضا، والنصوص إذا كانت متناهية والوقائع غير متناهية، وما لا يتناهى لا يضبطه ما يتناهى، عُلم قطعا أن الاجتهاد والقياس واجب الاعتبار، حتى يكون بصدد كل حادثةٍ اجتهاد».

لن أطيل في سرد النصوص، فمناسبتنا الرمضانية ليست بحثية، ولكني أجد أن الواقع الذي وقعت فيه هذه المناسبة، يفرض على من أنار الله -سبحانه وتعالى- بصائرهم، من فقهاء الوقت، أن يبذلوا كل جهدهم في الوصول إلى الحكم، فيما يقع للناس من مسائل. فلكل حادثةٍ اجتهاد، وإزاء كل مستجدٍ حكم، وهذا يكون عبر منهجٍ فقهي رصين، يجمع بين العلم بالشرع ومقاصده، وبين المعرفة بالواقع ومستجداته، ويكون كذلك عبر توظيف العلوم الحديثة عند إرادة تكييف الواقعة من الناحية الشرعية، وعلى فقهاء الزمن أن يفيدوا من المتخصصين في كل العلوم، ويبرهنوا جميعا أن الفقه في الشرع، أساسٌ لصلاح الزمان والمكان.

أختم مقالي، بالتأكيد التام على أن المسائل الحياتية بعد زوال فيروس «كورونا» ليست كما قبل، وهو ما يجعلني أجزم بأن مرض «كورونا» سيكون -بحول ربي وقدرته- أحد أهم الأسباب وراء ازدهار الفقه الإسلامي، وعلى المتصدرين للعلم الشرعي إثبات قدرتهم في الجمع بين فقه النصوص الشرعية، وفقه الأحوال الواقعية، ولا أقصد هنا أن يكون الواقع حاكما على النص، بل أقصد كيفية تطبيق النص على الواقع، وإنزاله عليه، خصوصا في المسائل التي لا نصّ فيها، ورحم الله الشيخ ابن القيم، الذي قال في الجزء السادس من كتاب «إعلام الموقعين عن رب العالمين»: «الواجب شيءٌ، والواقع شيء، والفقيه من يطبق بين الواقع والواجب»، وكأنه يفسر كلام شيخه الشيخ ابن تيمية، الذي ورد في الجزء الثاني من كتاب «جامع الرسائل»: «من لم يعرف الواقع في الخلق، والواجب في الدين؛ لم يعرف أحكام الله، سبحانه وتعالى، في عباده».

أسأل الله -عزّ وجلّ- الشافي المعافي، الموفق الهادي، أن يتقبل من الجميع الصيام والقيام، ويزيدنا في شهر رمضان، وبعده فهما وإدراكًا، ويحفظ علينا في كل مكانٍ، تحت السماء وفوق الأرض، نعمة الأمن والأمان، والتنمية والاستقرار.