في ضوء غلبة الرمز الفني على الواقع التاريخي للنموذج الجحوي في الأدب العربي، غاب عن بال كثير من القراء أن جحا العربي شخصية حقيقية ذات واقع تاريخي، وأن نسبه ينتهي به إلى قبيلة فزارة العربية، إذ وُلد في العقد السادس من القرن الأول الهجري، وقضى الشطر الأكبر من حياته في الكوفة، وبذلك تخبرنا كتب التراث العربي، خاصة كتب الأدب والأخبار والتراجم والسير، وأشارت إلى اسمه وما يشتهر به من نوادر وحكايات هو صاحبها.

وعلى الرغم من اضطراب أخباره أحيانا في تلك المصادر، إلا أنها تجمع في النهاية على وجوده «التاريخي» بسمته وملامحه المعروفة بيننا، وفي ضوء تلك الأخبار وما نسب إليه من نوادر وأقوال نحاول أن نجمع بينها في نسيج واحد، يكشف حقيقة تلك الشخصية ونصيبها من الواقع التاريخي والفني «الفولكلوري» معا.

وعنايتنا بالواقع التاريخي لجحا، أو بالأحرى للنموذج الجحوي قد لا تجد من يؤيدها من دارسي الفولكلور، الذين يحتفون عادة بالرمز الفني «الفولكلوري» ودلالاته ووظائفه الحيوية، أكثر من احتفائهم بالواقع التاريخي للشخصية، ما دامت قد تحولت إلى نموذج فني «فولكلوري»، ورمز قومي، يحمل في أعطافه جانبا من جوانب التعبير عن الجماعة، وقد اتخذ أسلوبا مميزا في الإبداع الأدبي الشعبي، هو أسلوب الحكاية المرحة التي عُرفت في كتب التراث باسم النوادر، غير أن عنايتنا هنا بالواقع التاريخي جاءت لأكثر من سبب.

فالوقوف عند تاريخ هذه الشخصية -ما دامت حقيقية- يشكّل حلقة من حلقات تطورها إلى نموذج فني قومي، ويحسم -في الوقت نفسه- ذلك الخلط أو الاضطراب الذي يلحق بالنموذج الجحوي وأصالته في تراثنا العربي عامة، ومأثوراتنا الشعبية خاصة، وما يترتب على ذلك من نتائج تساعدنا في تحليل البواعث التي أدت إلى نمو هذه الشخصية وتطورها إلى رمز فني، ولسوف نرى عند التناول التاريخي بعض الحقائق الأدبية والفنية التي اقترنت بهذا النموذج، وصارت معلما مشتركا بين النموذج العربي والنماذج الجحوية اللاحقة، خاصة النموذجين «التركي والمصري»، فضلا عن أن هذا التناول سيتيح لنا إلى حد ما إمكان تتبع النوادر المنسوبة إلى النموذج الجحوي بعامة، ودراستها ومعرفة أصولها، ثم مقارنتها والوقوف على مدى ما أصابها من حذف أو تغيير أو إضافة، في ضوء المزاج القومي الذي أبدعها ورددها تراثا شفهيا أو مدونا لأجيال متعاقبة وقرون متطاولة.

ومما هو جدير بالذكر، أن «ابن النديم» المتوفي سنة 385 للهجرة 987 للميلاد، صاحب الفهرست «الذي انتهى من تأليفه سنة 377 للهجرة»، يذكر لنا كتابا قائما بذاته اسمه كتاب نوادر جحا، وقد وضعه في أول قائمة كتب النوادر ضمن أسماء قوم من المغفلين ألّف في نوادرهم الكتب، ولا يعلم مؤلفها، وإذا كان ابن النديم قد صنّف نوادره ضمن نوادر الحمقى والمغفلين، فالذي يعنينا هنا أن نوادر جحا العربي قد باتت في القرن الرابع الهجري من الشهرة والذيوع، بحيث وجدت من يحفل بجمعها وتدوينها وتصنيفها، ويأتي ابن النديم نفسه ليضع هذا الكتاب، في صدر قائمة كتب النوادر التي أشار إليها، مما يؤكد مدى شيوعها وذيوعها آنذاك.