تلاحظ ثلاث فئات تشكك في جدوى الحديث عن الصحوة وهي:

«أولا»: فئة عاشت خارج إطار الصحوة بحكم طبيعة حياتها «موظفو قطاعات كبرى، لها منظومة اجتماعية مغلقة، كشركة أرامكو مثلا». فشعورهم بالصحوة ليس كشعور مواطن لا توجد له حاضنة تحميه من تغول الصحوة على فضائه العام، ولهذا يكررون -مثلا- أن ما يكتبه السريحي فائض عن الحاجة، متجاهلين أن الصحوة -كطبيعة حياة- لم تنته في كثير من الهوامش الاجتماعية في القرى والأرياف والبوادي، بل وحتى الأحياء الخلفية للمدن الكبيرة.

«ثانيا»: فئة صحوية غيّرت لونها، رغم أن قلبها يطفر بحب الصحوة ورموزها، وأقصى ما تستطيعه في سبيل هذا الحب، هو «تخذيل» الناس عن نقد الصحوة بأسلوب الفئة الأولى نفسه.

«ثالثا»: فئة شعبوية تقلق من الخطاب الثقافي، إذ تراه كالخطاب الصحوي، رغم أن الخطاب الثقافي يدعو إلى الفردانية والاستقلال الفكري والتعددية، لكنهم كمن يخاف الحبل بسبب لدغة الثعبان.

هل يمكننا أن ندخل العالم الحديث دون وعي «حداثي»؟ ليأتيك الجواب الصحوي: يمكننا أن ندخل العالم الحديث بوعي «حديث»، أما «الحداثة» فهي «حرام»، ويقصد بذلك أنه يمكننا شراء وامتلاك آخر مقتنيات التقنية، مع القدرة التشغيلية لهذه الأدوات الحديثة، ولكن ما يخفى على كثير من الناس هو المعنى «الحداثي» الذي يصاحب هذه الأدوات، فالمسألة تتجاوز المستوى النفعي التشغيلي التقني لهذه الأدوات الحديثة، ليتفاجأ بعض المجتمع بأنهم ليسوا بحجم المعنى الحداثي الذي يكمن وراءها، فهم يمتلكون القدرة الشرائية لهذا المنتج التقني، لكنهم لا يمتلكون الوعي الحداثي اللازم لاقتنائها، بل وينجرفون باتجاه الاستهلاك التجاري باسم الدين، فيتحول حتى الدعاء إلى منتج استهلاكي يتم تسويقه على شكل رسالة جوال تصلك بمقابل مادي، فكيف نلوم صاحب كتاب «إسلام السوق» على ما كتبه؟!.

ما كذب فيه وعاظ الصحوة على الناس، هو إمكان دخول العالم الحديث دون «وعي حداثي»، بل يكفي «الوعي الحديث» المبتسر والخالي من أي أبعاد حداثية تستلزم القطيعة مع الفهم القديم لمنظومة التقاليد الاجتماعية، كي لا يخرج على الناس من يقول: «لا يجوز دخول المرأة على الإنترنت بدون محرم؟!».

والسؤال: ما فائدة الوعي «الحداثي» الذي نراه مختلفا بالكلية عن الإدراك «الحديث»؟. الوعي الحداثي يقتضي تناغما مع الحياة الحديثة وأدواتها، دون تكرار القلق الدائم الذي يأتي مع كل جديد في التقنية.

فجيل نهاية السبعينات وبداية الثمانينات الميلادية من القرن الماضي، كانوا يعانون من تزمت آبائهم ضد جهاز التلفزيون، وخطره على عقل ذلك الجيل، ثم جاءت الصحوة بزخمها لتستعيد فتاوى تحريم التلفاز أول ظهوره، وتعطيها معاني ودلالات جعلت بعض أبناء الجيل يكسر جهاز التلفاز، بدلا من حتى الانتفاع بقيمته لو باعه، فحتى المال الناتج من بيع التلفاز يعدّ حراما.

في العصر الحديث لا يكفي «ابن القبيلة» للتناغم مع زمنه أن يقتني جوالا من آخر موديل «ثم يشتري هدية من هذا الموديل لزوجته وبناته وأبنائه» متجاوزا تزمته القديم عام 1421، فيما سمي «جوال العائلة!»، فإن لم يخرج «ابن القبيلة» من غرائز «القبيلة الممزوجة بخطاب الصحوة واستدلالاتها» إلى العقل «الحداثي» فستراه يصاب بهستيريا لمجرد أن زوجته «ضاع منها الجوال» بالصدفة المحضة، ليعتبر ضياع «جوال زوجته أو ابنته» قضية شرف ضائع، بل قضية حياة أو موت، فاستديو الجوال مليء بصور «الحريم»، ويخشى أن تقع الصور في يد «الغرباء»، وعندما تستفسر منه عن هذه الصورة، وهل هي «صور من غير ملابس» ينفجر في وجهك ويقول: لا... هي صور في حفلات زواج أو اجتماع عائلي عادي، فتحاول أن تهدئ من روعه، فيتهمك بأنك «قليل الغيرة»، وتتهمه بأنه «قليل الوعي»، فهل يعقل أن يوجد جهاز الجوال في حياته دون أن يمتلك «الوعي الكامل» بمعنى وجوده، ليرتطم بحقيقة أن هذا الجوال -وحتى دون ضياعه- يمكن اختراقه... إلخ من معطيات تقتضي منه أن يستوعب أعراضه الجانبية، التي تشبه في ضررها المعنوى أحيانا مغامرة شراء سيارة للأبناء، مع وجود نسبة حوادث قد تؤدي إلى إعاقة أو وفاة لا سمح الله.

فهل يعقل مع وجود هذه النسبة في الحوادث -مهما كانت كبيرة- أن تعطي ابنك دراجة أو بعيرا ليذهب إلى جامعته؟.

أخيرا، هذا المقال دعوة لكل قارئ أن يراجع كل مقتنياته الحديثة، ويحاول استيعاب «الوعي الحداثي» اللازم فيها تجاه عاداته، فما لا تستطيع استيعابه «حداثيا» لا تقتنيه، فمن يتعاطَ مع الجوال في يد الزوجة والأبناء كما تعاطى والده قبل عقود مع وجود التلفاز «مراقبة ومعاقبة»، فهو يكرر أوهام الضبط والمراقبة «المتزمتة»، فتجربة الطفولة الناضجة عليها أن تخوض مغامرتها الخاصة مع كل ما هو تقني وتواجه مخاطره، كما واجه القدماء مغامرة الخروج من المنزل للمشاركة في ألعاب الحي أو القرية وما فيها من مخاطر، تبدأ بالإصابات الجسدية مرورا بالتحرش، ومن يعِشْ «فوبيا» القلق تجاه الحياة مما يجعله ينجب ذرية «أولاد وبنات»، يخلق منهم «عبيدا» دون أن يشعر، فالعبد تخلقه تنشئة تتكئ على أمرين: «المراقبة والمعاقبة»، أكثر من اتكائها على تربية «تعطي الحرية الكافية للتعلم من الأخطاء».

من لا يستطع سوى إنجاب الأحرار والحرائر ليحيلهم إلى «عبيد» باسم «التربية»، فعليه بقناعة «أبوالعلاء المعري» في الإنجاب، فذاك أريح له ولذريته الذين لم يخلقوا بعد. فالعقم الإرادي قرار حكيم للمصاب بأمراض نفسية وعصبية يسميها «حرص تربوي»، تعيقه أن يكون طبيعيا مع ذريته.

الحداثة وعي بمستوى القطيعة اللازمة مع منظومة العادات القديمة، وتشكيل منظومة عادات جديدة لا يربكها اجتماعيا ضياع جوال زوجة أو بنت، لأن أستوديو الجوال فيه صور عادية لمجموعة نساء محترمات، فهل يعقل أن يفقدن احترامهن وشرفهن بسبب ضياع «جوال».

كم المشوار طويل إلى «الوعي الحداثي»، أما شراء جوال جديد فالمشوار إليه قصير جدا، إنه مسافة الطريق إلى أقرب دكان جوالات.