عند دخولك أي قسم للغة العربية في بعض الجامعات العربية، أول ما يصادفك، اللوحات التي تزين ممرات وقاعات القسم، وفيها يضع منسوبو القسم رؤية ورسالة وأهداف القسم، ويقع على رأس الأهداف: «الحفاظ على لغة القرآن الكريم». وحسب فهمي المتواضع، أعتقد أنهم يقصدون بلغة القرآن، اللغة العربية التي تعتمد النص القرآني معيارا أساسيا للفصاحة. وفي سبيل مواكبة العصر الحديث، هناك اهتمامات كبيرة في الجامعات العربية، تصب كلها في صالح مواكبة عصرنا الجميل، وأهم المساعي لتحقيق هذا الهدف المنشود هو تطبيق النظريات الحديثة. والنظريات الغربية يصطلح على تسميتها بالحديثة في الجامعات العربية، مع أن أصولها قد تعود للقرن التاسع عشر، وبعضها يعود لعصر ويليام شكسبير وقد يكون لها جذور في عصر أرسطو وأفلاطون. واستكمالا للمقال السابق حول البنيوية ورصدا للتحولات والانسلاخات التي طرأت عليها عبر انتقالها من بيئة ثقافية أجنبية إلى البيئة الثقافية العربية، وما يمثله النص القرآني في هذه الثقافة من أهمية محورية، فقد كان للنظرية البنيوية حضورا كبيرا في أقسام اللغة العربية، وردود أفعال مصاحبة للتيارات المتباينة داخل الثقافة العربية، والأوساط الأدبية والفكرية على وجه التحديد، كون البنيوية تنتمي ثقافيا إلى حضارة مختلفة غالبا ما ينظر لها بصفتها حضارة غازية.

كانت البنيوية من النظريات المثيرة للجدل، لا سيما أن تعريفها ظل غامضا وضبابيا إلى حد كبير، بعد أن تحولت إلى أشبه بالإيديولوجيا، أو التيار المضاد في الثقافة العربية، ولكن هذا لا يمنع من تأثيرها العميق في دراساتها للثقافة العربية، وخاصة أنها أخذت تدرس التراث العربي وفق رؤية لا تخضع بالضرورة للتسلسل التاريخي، وكأن الحقبة التاريخية والظروف الاجتماعية التي انتجت هذا التراث غير موجودة، فهي تدرس بنية النص وتبين العلاقات التي تربط كيانه اللفظي المادي لتصل إلى حكم أدبي مطلق، وتهمل الوحدة الموضوعية للنص ودوافع إبداعه وأثر المبدع فيه، ومن هنا تقع في فخ التحليل أو التفسير الميكانيكي للنصوص.

فالبنيوية اتجاه يهدف لدراسة النصوص للكشف عن نظام عملها، والقوانين التي تحكم عناصرها ولكن بعد أن تفصل النص، عن مقاصد الكاتب، وتضعه بيد القارئ الذي يقوم بدوره بعملية التفكيك والتركيب وإعادة إنتاج بنية النص، لتكون قابلة للاختراق والتجاوز للوصول لقراءة جديدة للنص، بعدما أخرجته من سياقه وتاريخه وجعلته نسقا مفتوحا على نفسه وعلى أنساق أخرى.

وبالتالي تتحول السلطة من كاتب النص إلى القارئ الذي يصبح هو كاتب النص، فيقوم بإعادة التركيب والتأويل للمعاني، وهذا سيؤدي بطبيعة الحال إلى تجاوز مقاصد المؤلف، وهنا تكمن الإشكالية في استزراع البنيوية في التربة العربية -ذات البعد الروحي- التي يمثل النص القرآني فيها نصا مركزيا تدور حوله غالب الدراسات العربية القديمة، لمحاولة التعرف على أوجه الإعجاز البلاغي والبياني فيه والوقوف على تفسير معاني التنزيل.

ترتبط الثقافة العربية بالقرآن الكريم بشكل كبير، وكثير من الأشعار العربية كانت مرجعا لتفسير آيات قرآنية عديدة، وما أنتجته الثقافة العربية من نصوص أدبية واقع أيضا تحت تأثير القرآن الكريم، بما أنها تستعمل لغة القرآن أي اللغة العربية الفصحى. فهل يمكننا النظر إلى نصوص الحضارة العربية والإسلامية -كوننا امتدادا لهذه الحضارة- وفق رؤية الأطروحة البنيوية وما تفرضه من حدود بين النص وكاتبه، تجعلنا لا نسلم إطلاقا بأن القراءة بالمفهوم البنيوي عملية بريئة خالية من التعسف الواعي وغير الواعي؟