كما أن كثرة القضايا والتعاطي معها، والمتغييرات الاقتصادية والدينية والسياسية، تجعل تلك العقول تعاني من اضطراب وتراجع عن كثير من المعتقدات والآراء التي تشبعت بها منذ الصغر.
ومما لا خلاف عليه، أن استخدام العقل البشري قد أوجد حلولا عظيمة لمعظم مشاكل البشر، كمحاربة الأمية والفقر والمرض، إلا أن ذلك العقل نفسه، أوجد خرابا ودمارا تسببا في الحروب وكساد الاقتصاد والتلوث البيئي والتمييز العنصري.
ورغم أن معظمنا قرأ قصص التاريخ المأساوية، والفواجع الكبيرة التي بسببها انقرضت الحضارات والمجتمعات، إلا أن عقولنا كانت وما زالت تعاني من قصور كبير في أخذ العِبر والاستفادة من تلك الدروس، لتجنب تكرارها في المستقبل. فحصان طروادة نجده اليوم في سورية واليمن والعراق، وعنصرية الستينات تعود من جديد في العالم الغربي بمسمى الهجرة والمهاجرين.
ورغم تطور العلم والتكنولوجيا، وانقراض كثير من الحرف التقليدية والعادات الاجتماعية، إلا أن هذه التكنولوجيا لم تؤدّ إلى بناء جهاز مناعي يحمي عقولنا من تصديق الخرافات والضلالات، والأكاذيب الإعلامية والسياسية، بل ما زالت تلك العقول ترى الحقيقة المجردة، ولكنها تشيح بنظرها عنها لتغوص في أعماق المجهول بحثا عن الحقيقة المشوهة.
لهذا، قَلّما نسمع شخصا يذكر خبرا ويقول إن مصدره وكالة إعلامية مشهورة أو مؤسسة معروفة، وبدلا من ذلك لا يتردد في أن يقول إن مصدر معلوماته، هو معرّفات مجهولة في وسائل التواصل، أو قناة إعلامية لها توجّه معين، بعيدٍ كل البعد عن الحقيقة.
عقولنا البشرية تمت مصادرتها مرات عدة، وبمسميات كثيرة، كالتطرف والإرهاب والجهاد، بين فئات تعتنق المذهب نفسه، والانغماس في التكنولوجيا والبحث عن المجهول، مما جعل بعض الأمم والمجتمعات أشبه بالروبوتات المتحركة. كل ذلك، قابَله انحسار كبير في الجانب الأخلاقي والإنساني.
دول كثيرة في العالم تحتفل يوما بعد يوم بالقضاء على الأمية، ولكن هل القضاء على الأمية يعني إجادة القراءة والكتابة فحسب؟!، وهل أسهم القضاء على الأمية بتلك الطريقة في تطوير العقل البشري ليصبح أكثر فائدة وأقل ضررا؟! وإذا كان الجميع أصبح غير أميّ، فلماذا هناك دول متخلفة ودول متأخرة ودول متقدمة؟.
إن الأمية بمعناها الحقيقي مرتبطة بالنتاج الفكري والعلمي، والقدرة على تحسين المعيشة، ومحاربة التحديات، وضمان مستقبل الأجيال، وترسيخ المفاهيم والقيم، والاعتزاز بالثقافة السائدة للمجتمع، وعدم محاولة طمسها أو الخجل منها.
عبر التاريخ، ستظل القضايا العقدية والسياسية والاجتماعية والأخلاقية والإنسانية، مثار جدلٍ، وستظل العقول المختلفة تنظر إلى تلك القضايا من خلال ما يسكن فيها من عقائد وثقافات وخبرات متراكمة وموروث قديم.
ولهذا، سيظل التعاطي معها مختلفا ومتناقضا، حسب رؤية كل شخص، وتكوين كل عقلية، ولهذا علينا أن نحترم الاختلاف، لأنه كالصبغة الوراثية الموجودة في عقلية المجتمعات.
إن جُلّ ما نحتاجه هو عقلية متوازنة تنظر إلى القضايا من زوايا مختلفة، وتقدّر آراء الآخرين بمراعاة الخلفية الثقافية، والتكوين العقلي لتلك الفئات.